إذا ما كانت المكسيك تنتج ذرة وتبيعها بسعر ثلاثة دولارات لـ البوشيل الواحد (مقياس إنجليزي للحبوب يعادل 36،35 لترا)، وكانت الولايات المتحدة تبيع البوشيل بدولارين، فإن معنى ذلك أن المكسيكيين سوف يخرجون من المنافسة في قطاع زراعة الذرة، ويقومون باستهلاك الذرة الأميركية· يختلف هذا عما هو موجود في العالم الحقيقي، لأن حبة الذرة في هذا العالم، ليست مجرد حبة ذرة فحسب كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، ولكنها أيضا شيء مرتبط بالثقافة، والكبرياء القومي، بل والأمن القومي كذلك· وكل من حضر مؤتمر قمة كانكون الذي عقد في المكسيك الأسبوع الماضي، يعرف هذه الحقيقة·· ولكن الأميركيين والأوروبيين ومعهم اليابانيون يتظاهرون بعكس ذلك· وقد أدى هذا الموقف إلى قيام وفود من دول أفريقيا وآسيا، وأميركا اللاتينية بالانسحاب من جلسات المؤتمر مما أسفر عن فشله· ووفود تلك القارات الثلاث لم تكن هي الوحيدة التي طالبت بذلك، وإنما اشترك معها في المطالبة أيضا جيش من المزارعين والبيئيين، وجماعات حماية المستهلكين، والعمال، الذين تظاهروا خارج الفندق الذي عقدت فيه القمة مطالبين بإدخال تعديلات على اتفاقيات التجارة الحرة المعمول بها في مجال المحاصيل الزراعية على وجه الخصوص، لأن تلك الاتفاقيات تعمل على إفقار اقتصاداتهم، وبالذات تلك التي تعتمد على الزراعة·


عقب انتهاء المؤتمر والمظاهرات التي رافقته، قام الخبراء الاقتصاديون بالتحذير من احتمال عدم قدرة دول العالم الغنية بعد الآن على المطالبة بالمزيد من إجراءات تحرير الأسواق، ومن احتمال استمرار التباطؤ الاقتصادي السائد حاليا لفترة طويلة من الوقت· على رغم تلك التحذيرات، يرى الكثيرون أن قيام حكومات الدول الغنية بتطبيق سياسات خلاقة كفيل بجعل تلك الدول قادرة على الاستفادة من ثمار العولمة الاقتصادية، مع إتاحة الفرصة أمام الدول الفقيرة للاستفادة منها كذلك· ويرجع جزء من المشكلة القائمة بين الدول الغنية والدول الفقيرة حول الإعانات التي تقدمها الأولى لمزارعيها إلى أن الدول الغربية عادة ما تنظر إلى المحاصيل الزراعية على أنها سلعة تباع وتشترى، وليس تعبيرا عن الثقافة أو الكبرياء القومي· كما يرجع أيضا إلى أن تلك الدول تنسى أن توقف الدول الفقيرة في العالم الثالث عن إنتاج سلعة زراعية، بسبب عدم قدرتها على بيعها في الأسواق المحلية ناهيك عن الخارجية، وقيامها باستيراد تلك السلعة من الدول الأجنبية يشكل عبئا لا يطاق على احتياطاتها الضئيلة من العملات الأجنبية، وبالتالي على اقتصاداتها المنهكة· ومما يذكر هنا أن اتفاقيات التجارة المطبقة حاليا تسمح لما يعرف بدول العالم الأول بتقديم إعانات هائلة إلى مزارعيها تصل في مجملها إلى 300 مليار دولار في العام الواحد· وهذه الإعانات تمكن مزارعي تلك الدول من بيع محاصيلهم في الأسواق العالمية بأقل من سعر التكلفة، وتتيح لحكوماتها الفرصة لإغراق الأسواق العالمية ببضائعها· والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي مشهورة بتطبيق تلك السياسة، وهو ما يؤدي في غالبية الأحيان إلى إلحاق أفدح الأضرار بالمزارعين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وخروجهم من السوق، بسبب عدم قدرتهم على المنافسة· لذلك فإنه عندما قام ممثلو دول العالم الثالث في قمة كانكون بمطالبة الدول الغنية بالتوقف عن تقديم الإعانات الضخمة لمزارعيها، فإن غرضهم لم يكن مجرد مساعدة دولهم على الحصول على موطئ قدم في أسواق العالم الغنية، ولكنهم كانوا يريدون إلى جانب ذلك منح المزارعين في أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية فرصة للمنافسة في أسواقهم المحلية ذاتها· وقد طالب هؤلاء الممثلون حكومات الدول المتقدمة في الغرب بإعادة هيكلة موضوع الإعانات الزراعية، بحيث لا تؤدي تلك الإعانات إلى إعاقة المزارعين في دولهم· وفي الحقيقة أن الكثير من دول الاتحاد الأوروبي قد بدأت بالفعل في تطبيق ذلك، عندما قامت بإدخال تغييرات على نظام منح الإعانات فيها، بحيث لا يكون موجها للمزارعين الذين يقومون بإنتاج سلع محددة، وإنما لأولئك الذين يراعون الشروط البيئية في إنتاجهم، أو يقومون بتنويع ذلك الإنتاج بحيث لا يقتصر على سلعة واحدة، ويقومون بالتخفيف من استخدام المبيدات الحشرية والفطرية، ويعملون على خلق محميات للحياة الفطرية داخل مزارعهم·


وتدرس بريطانيا حاليا إعادة توجيه ما نسبته خمسة في المئة من تلك الإعانات، كما أن فرنسا تفكر في إعادة النظر في عشرين في المئة منها· أما في سويسرا التي يتلقى مزارعوها دعما من الحكومة، منذ منتصف التسعينيات، فإن ذلك الدعم يتم تحديد قيمته بناء على مدى التزام هؤلاء المزارعين بتطبيق معايير بيئية معينة· وتبلغ نسبة المزارعين الذين يحصلون على إعانات لمثل هذه الأسباب خمسة وثمانين في المئة من إجمالي عدد المزارعين السويسريين· وقد أدى الأسلوب المبتكر والخلاق الذي تفكر به الحكومة السويسرية حول هذه النقطة تحديدا، إلى تخفيض استخدام المبيدات الحشرية فيها بمقدار الثلث تقريبا ،