يقترب اللبنانيون من ساعة الحقيقة لانتخاب رئيس جديد. الثاني عشر من شهر نوفمبر المقبل هو الموعد الثالث المقرر لانعقاد مجلس النواب لإتمام عملية انتخاب الرئيس. فشلت المحاولات السابقة للانعقاد بسبب مقاطعة نواب المعارضة. بعد هذا التاريخ بيومين تبدأ، حسب الدستور، فترة الانعقاد الإلزامي للمجلس حتى ولو لم يدع رئيس المجلس إلى جلسة الانعقاد، وحتى مع مقاطعة نواب المعارضة. من المعروف أن فترة الاستحقاق الرئاسي في لبنان تبدأ في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي، وتنتهي في الرابع والعشرين من نوفمبر المقبل. انقضى حتى الآن أكثر من نصف فترة الاستحقاق هذه ولم يتم انتخاب رئيس جديد. بل ليس هناك مؤشر حتى هذه اللحظة على أن النصاب المطلوب لانعقاد المجلس سيتوفر في الثاني عشر من هذا الشهر، وبالتالي لا تزال عملية انتخاب الرئيس معلقة في الهواء. منذ العام الماضي هناك محاولات إيرانية وسعودية وأوروبية وأميركية، وعلى مختلف المستويات، لتحقيق التوافق المطلوب بين القيادات اللبنانية لتمرير انتخاب الرئيس العتيد. ومع أن هذه المحاولات لم تتوقف منذ أكثر من سنة إلا أنها فشلت حتى الآن في تحقيق أي تقدم في اتجاه تحقيق شيء من التوافق. الأسوأ أن المسافة بين ما يعرف في لبنان بالمعارضة والموالاة تبدو كما كانت عليه قبل أكثر من عامين عندما فجر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، أزمة سياسية خانقة عصفت ولا تزال تعصف بهذا البلد العربي الصغير. ترى، من الذي يعرقل انتخاب الرئيس اللبناني؟ يفرض السؤال نفسه مباشرة وبدرجة كبيرة من الدهشة والاستغراب. حسب الدستور كان المفترض أن عملية انتخاب الرئيس الجديد قد انتهت، أو على الأقل في طريقها للانتهاء بشكل واضح ومتفق عليه. لكن الواقع على العكس من ذلك تماماً. المستقبل القريب مفتوح على كل الاحتمالات، بما في ذلك دخول لبنان في حالة من الفوضى السياسية والأمنية. من الذي يعرقل انتخاب الرئيس اللبناني؟ هل هو انقسام اللبنانيين؟ أم أن المعرقل الأساسي هو التدخلات الخارجية؟ وإذا كانت التدخلات الخارجية هي العامل الذي يعرقل عملية الانتخاب، فمن هي هذه الجهات الخارجية تحديداً؟ الملاحظات المتوفرة عن تجربة انتخاب الرئيس اللبناني طوال أكثر من نصف قرن، وبشكل خاص خلال الثلاثين سنة مما يسميه اللبنانيون بمرحلة الوصاية السورية، تؤيد الرأي الذي يقول بأن المعرقل الأساسي لانتخاب الرئيس اللبناني حالياً هي التدخلات الخارجية. خلال هذه الفترة كان اختيار الرئيس اللبناني يتم بالاتفاق بين الطرفين السوري والأميركي. وأحيانا تلعب السعودية دوراً في إيصال مرشح معين للرئاسة بعد التوافق مع دمشق. حالياً يكاد يجمع اللبنانيون على أن انتخاب الرئيس الجديد يعتمد بشكل أساسي على مدى التوافق الإقليمي والدولي حول من ينبغي أن يترشح لمنصب الرئاسة الأولى. وغالباً لا يذهب إلى مجلس النواب إلا اسم مرشح واحد للحصول على أصوات الأغلبية، وهي أغلبية تبدأ في الظهور نتيجة للتوافق الخارجي. هنا لا يتجاوز دور مجلس النواب في انتخاب الرئيس أكثر من المصادقة على نتيجة التوافق الإقليمي والدولي. في هذه الحالة، يصبح من المنطقي التأكيد على أن الذي يعرقل انتخاب الرئيس هي التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي اللبناني. من هي هذه الجهات الخارجية؟ هي الجهات نفسها التي كانت تتوافق من قبل، ثم فقدت، لأسباب كثيرة، مبررات التوافق حالياً؟ بعبارة أخرى، هل الذي يعرقل انتخاب الرئيس اللبناني هم السوريون والأميركيون، أم أحد هذين الطرفين دون، أو أكثر من الطرف الآخر؟ من الواضح أن لكل من أميركا وسوريا مصلحة سياسية فيمن سيكون الرئيس اللبناني القادم. لكن الحضور والنفوذ السوري في لبنان يتجاوز بكثير ما تتمتع به أميركا هناك. ثانياً، إذا أخذنا المحكمة الدولية في الاعتبار، وأنها ذات صلة مباشرة بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، أمكن القول بأن المصلحة السورية أعمق، وأكثر دقة من المصلحة الأميركية في هذا الموضوع. أميركا هي الدولة الأعظم، ومصالحها تمتد بإمتداد الكرة الأرضية. ماذا يعني ذلك؟ أمور كثيرة هنا، من أهمها أنه في حالة وصول رئيس لبناني مناهض لها، تملك واشنطن خيارات عدة لتحييد، أو على الأقل لتخفيف ووضع حد للتبعات السلبية لذلك. وفي كل الأحوال تملك واشنطن من الخيارات أكثر بكثير من الخيارات المتوفرة لدمشق في حالة أصبحت الأخيرة الطرف الذي يجب عليه العيش في مواجهة رئيس مناهض لها. ثالثاً، أن ما يربط دمشق بحلفائها في لبنان أكثر وأعمق مما يربط واشنطن بحلفائها اللبنانيين. بل هناك من يقول إن واشنطن لا تملك في لبنان حلفاء، وإنما مجرد أصدقاء جمعتها بهم مصلحة طارئة. يتضح ذلك بشكل عملي إذا أخذنا مثال التمديد الأخير للرئيس اللبناني الحالي، إميل لحود. تم هذا التمديد بالقوة وفي العلن من قبل الرئيس السوري، بشار الأسد، وضداً على معارضة أكثرية لبنانية، وعلى معارضة عربية ودولية أفضت إلى عدة قرارات دولية كان أولها القرار 1559. وهي قرارات تصب كلها في مسألة واحدة: رفع يد سوريا عن لبنان. بعبارة أخرى، خاطرت دمشق بالصدام مع أكثرية لبنانية، ومع حلفائها العرب، ومع المجتمع الدولي، في سبيل ماذا؟ في سبيل إيصال شخص واحد لسدة الرئاسة في لبنان. كان يقال إن في لبنان أكثر من لحود واحد، وبالتالي كان في متناول دمشق أن تكون أكثر مرونة من دون أن تخسر شيئاً مقابل ذلك. لماذا تصرفت دمشق بهذا القدر الذي يقول الكثيرون داخل لبنان وخارجه بأنه تميز بالكثير من الحماقة والعنجهية؟ لا يعني تصرف دمشق على هذا النحو إلا واحداً من أمرين: إما أن القيادة السورية الجديدة تفتقد لأدنى درجات الحكمة والكياسة السياسية، أو أن هذه القيادة كانت ترى أن مصلحتها فيمن يجب أن يحتل قصر بعبدا في تلك اللحظة هي من الدقة والخطورة بحيث لا تملك ترك هذا الأمر لحسابات الآخرين، أو لتقديرات الصدفة. في كل الأحوال، يبدو حتى الآن أن سوريا خسرت، أو تشعر في العمق أنها تخسر وبشكل سريع الورقة اللبنانية، وهي الورقة التي خاطرت في سبيلها بالكثير من رصيدها ومن علاقاتها العربية والدولية. والشاهد هنا أنه مهما كان المبرر وراء السلوك السوري، إلا أنه على الأقل يعكس إدراك القيادة هناك بأن مصلحتها في الاستحقاق الرئاسي اللبناني هي أكثر وأعمق من مصالح الآخرين. ثانياً أن حلفاء سوريا ملتزمون معها، أو ملزمون بالالتزام معها رغم التداعيات الخطيرة التي انتهت إليها عملية التمديد للرئيس الحالي. من أخطر هذه التداعيات انفجار مسلسل الاغتيالات بدءاً من اغتيال الحريري، وتفجير النظام السياسي من الداخل، ووضعه على حافة حرب أهلية مفتوحة. ومع ذلك لا يتمسك حلفاء سوريا بهذا التحالف وحسب، وكأنه قدر لا يمكن تعديله، دع عنك الفكاك منه. بل لا يبدو أنهم معنيون بالتأثير في السلوك السياسي السوري، مما يشير إلى أنهم لا يختلفون معه كثيراً، أو أنهم لا يملكون إزاءه الكثير من الخيارات. وراء هذا التمسك بالموقف السوري تداخل في المصالح المحلية والإقليمية بين الطرفين. وبالتالي فإن التزام المعارضة اللبنانية بالمصالح السورية في إتمام الاستحقاق الرئاسي اللبناني هو أمر واضح، بل ويكاد أن يكون أمرا معلنا. طبعاً هذا لا يعني أن المعارضة، وخاصة "حزب الله"، لا تملك مصالح خاصة بها. لكن الذي يبدو من سياق المشهد السياسي اللبناني خلال السنتين الماضيتين أن هامش الحركة لدى المعارضة أضيق بكثير من الهامش الذي تتمتع به الموالاة في موضوع الاستحقاق الرئاسي. يتضح ذلك من طبيعة موقف كل منهما في الاستحقاق الحالي. يتمحور موقف الموالاة في الاستحقاق بشكل رئيس حول مبدأ استقلال وحرية لبنان. في المقابل يتمحور موقف المعارضة حول مبدأ التوافق الشامل. وفي حين أن الاستقلال والحرية لا يلغيان التوافق، بل يوفران له إطاراً سياسياً أفضل، نجد أن التوافق الشامل يضيق من هامش الاستقلال ومن حرية الحركة. وفي ضوء أن النظام السياسي اللبناني بطبيعته الطائفية يسمح للقوى المحلية بالتحالف مع الخارج لغرض الاستقواء في الداخل، قد يصبح التوافق عامل شلل للنظام السياسي في حال تعارضت مصلحة محلية مع مصلحة إقليمية أو دولية. وهذا هو الحاصل حالياً في موضوع الاستحقاق الرئاسي، والذي يعرقل انتخاب رئيس جديد.