المفاوضون المشاركون في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في مدينة بالي التي أكتب منها حالياً، جاؤوا من 200 دولة تقريباً، ويتحدثون عدداً مماثلا من اللغات. وكان هناك شعور يتقاسمه أغلبهم، وإن كان مسكوتاً عنه، يدفعهم لإيجاد وسيلة أفضل للتعامل مع التغير المناخي، وهو أن تعبير "فيما بعد" قد انتهى ولم يعد ملائماً لجيلنا الحالي. إن تعبير "فيما بعد" كان ترفاً بالنسبة للأجيال والحضارات السابقة. كان يعني أنك تستطيع رؤية نفس الفضاءات، ونفس الحيوانات، وتأكل نفس الفواكه، وتتسلق نفس الأشجار، وتصطاد من نفس الأنهار، وتستمتع بنفس الأجواء، وتنقذ نفس الأجناس المهددة بالانقراض، وتفعل كل الأشياء التي كنت تفعلها عندما كنت طفلاً وذلك عندما تتاح لك الفرصة فيما بعد وفي فترة لاحقة من حياتك. وإذا ما كان هناك تغير واحد في الوعي العالمي قد استقر خلال العامين الماضيين مثلاً، فهو يتمثل في أن "فيما بعد" لم تعد قائمة. إن "فيما بعد" لم تعد تعني أنك ستفعل نفس تلك الأشياء التي سردتها لك سلفاً عندما تسمح ظروفك وأجندتك الزمنية بذلك. إن تعبير "فيما بعد الآن" معناه أن تلك الأشياء قد ولت، وأنك لن تستطيع أن تفعل أيا منها مرة ثانية أبداً، وذلك ما لم يكن هناك عمل جذري جماعي يهدف لتخفيف حدة التغير المناخي لاستنقاذ تلك الأشياء. وهناك أسباب عديدة تدعونا للقول إن تعبير "فيما بعد" قد انتهى. منها حقيقة أن الإحماء الحراري قد أصبح له أثر ملحوظ على ركائز نظامنا البيئي، مثل ثلج البحر المتجمد داخل الدائرة القطبية، والذي تقول دراسة جديدة إنه يمكن أن يختفي تماماً بحلول عام 2040. أما العامل الثاني فهو الشره المرضي للطاقة الذي يتميز به الاقتصاد العالمي حالياً، والذي خلق وضعاً لم يؤد فقط إلى زيادة درجة حرارة الكوكب، وإنما يؤدي أيضا إلى "اغتصابه" بمعنى ما. "عبر التاريخ البشري كان هناك على الدوام جزء من المحيط كي يُنهب، وجزء من الغابات الجديدة كي يُلتهم، ومزارع جيدة كي تُستغل "وذلك كما يقول "كارل بوب" المدير التنفيذي لـ"سيرا كلوب" الذي جاء ليراقب مؤتمر بالي. ويضيف بوب: "أما الآن فإن هذا النهب الاقتصادي قد أصبح امتيازاً لكل دولة. حيث لم تعد لدينا الآن مجاري مائية بكر، أو غابات عذراء، دون أن تكون القوى الاقتصادية العالمية الصاعدة قد نهبتها واستغلتها"، ويواصل قائلا: "لذلك فما نراه الآن هو أن دولاً كثيرة للغاية قد دخلت في صراعات لا تنتهي فيما بينها على مصائد الأسماك، والأشجار والموارد المائية، حيث تقوم إما بابتلاع مصادرها وثرواتها أو السطو على المصادر والثروات المملوكة للجيران وبمعدلات مخيفة". والحقيقة هي أن الاقتصاد العالمي اليوم أصبح مثله مثل شاحنة هائلة لا تعمل دواسة البترول فيها وضاعت مفاتيحها ولم يعد أحد قادراً على إيقافها أو منعها من اكتساح مزيد من العالم الطبيعي، بصرف النظر عن الخطط العالمية المرسومة! وأذكر في هذا السياق أني قرأت مقالة مفزعة في صحيفة "جاكرتا بوست" الإندونيسية الأسبوع الماضي بقلم "أندريو آديوايبوو" المحاضر في الإدارة البيئية بجامعة إندونيسيا، كانت تدور حول خطة ذكية أُعِدت لحماية غابات نبات القرم المحيطة بسواحل جاكرتا، لكنها لم توضع أبداً موضوع التنفيذ وهو ما كان سبباً في الخسائر الفادحة التي ترتبت على طوفان المد البحري الشهر الماضي. وقفزت سطور بعينها من تلك المقالة إلى ذاكرتي، كانت تقول: "إن الخطة لم يتم تنفيذها، وبدلاً من توفير نطاق عازل حول الشواطئ، فإن أعمال التطوير العقاري تعدت على المنطقة الأساسية التي كان مزمعاً حمايتها والتي تغطت تماماً بالخرسانة المسلحة". لقد أصبح بإمكانك أن تقرأ مقالات مثل هذه في مئات الدول النامية عبر العالم. أما أن تقرأها هنا في إندونيسيا، وهو البلد الذي عقد فيه مؤتمر التغير المناخي، فيعد في حد ذاته سبباً من الأسباب التي أدت إلى انقراض "ما بعد". إن إندونيسيا تفقد في الوقت الراهن غابات استوائية يعادل حجمها حجم ولاية "ماريلاند" كل عام، كما أن الكربون المنبعث من عمليات قطع أشجار الغابات وإخلائها والذي يعود في معظمه لأنشطة غير مشروعة لشركات الأخشاب، قد جعل من إندونيسيا ثالث أكبر مَصدر في العالم لانبعاثات الكربون من البيوت الزجاجية، حيث لا يسبقها في ذلك سوى الولايات المتحدة والصين. والحقيقة أن عملية تجريف الغابات تعد مسؤولة عن كم من الانبعاثات الغازية يفوق تلك الناتجة عن عوادم جميع السيارات والشاحنات في العالم. أثناء وجودي في بالي قابلت "بارناباس سيوبيو"، محافظ ولاية "بابوا" التي بها بعض أغنى أنواع الغابات الطبيعية في إندونيسيا، وقد حاول الرجل أن يخاطبني بعبارات فصيحة منمقة عن صعوبة توفير الوظائف للقرويين، وكيف أنه حتى لو تم توفير تلك الوظائف فإنها لن تدر عليهم دخلاً يعادل ذلك الذي سيتحصلون عليه إذا ما اجتثوا شجرة وباعوا خشبها للمهربين الذين يقومون بشحنها لماليزيا لاستخدامها في صناعة الأثاث الذي تصدره الأخيرة للأميركيين والأوروبيين. وقال لي "سيوبيو" إن شعاره هو: "فكر تفكيراً طموحاً وابدأ مشاريعك صغيراً، واعمل الآن قبل أن يصبح كل شيء متأخراً أكثر مما ينبغي". هذا الكلام ينطبق علينا جميعاً. وإذا ما كنتم تريدون أن تحافظوا على الغابات الإندونيسية فعليكم أن تفكروا بسرعة، وأن تبدؤوا بسرعة، ولتعملوا الآن، ولا تقولوا أبداً "فيما بعد". توماس فريدمان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"