كثيرة هي الرسائل التي حملها مصرع مدير عمليات الجيش اللبناني فرانسوا الحاج في حادث جديد من حوادث الاغتيال عبر تفجير السيارات. وإذ يبدو هذا الحادث هو الأخطر منذ عملية اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، فمن الطبيعي أن تنطوي الرسائل المتضمنة فيه جميعها على أخطار متفاوتة. غير أن الخطر الذي ينبغي الانتباه إليه، من حيث أنه يمثل مصدرا لإعادة إنتاج الأزمة طول الوقت، هو هشاشة البيئة السياسية – الاجتماعية التي يراد بناء توافق فيها. وقد أظهر الحادث مدى هذه الهشاشة من زاوية تبدو جديدة وهي صعوبة الوصول إلى إجابة قاطعة، أو حتى مرجحة بقوة، على السؤال عن صاحب المصلحة في اغتيال فرانسوا الحاج. فكلما تعددت الجهات التي قد تكون لها مصلحة في ذلك، كان هذا مؤشراً على ازدياد تعقد الأزمة واختلاط أوراقها. ولا يعني ذلك أن الأزمة اللبنانية كانت أقل تعقيدا، أو أن أوراقها كانت أكثر قابلية للفرز، قبل ذلك الحادث. ولكن الشخص المستهدف بالاغتيال هذه المرة يختلف عمن سبقوه إلى هذا المصير من حيث أنهم ينتمون في مجملهم إلى أحد التحالفين الرئيسيين المتصارعين في لبنان، وهو تحالف 14 آذار. ولذلك كان ممكنا القول إن للتحالف الآخر، أو بعض أطرافه، والقوى الإقليمية المؤيدة، والمرتبط بها، مصلحة في اغتيالهم، بغض النظر عمن يكون الجاني على وجه التحديد. فالحديث عن صاحب أو أصحاب مصلحة في جريمة ما لا ينطوي على إدانة، وإنما هو من لزوم ما يلزم لإحراز تقدم في مسار التحقيق. أما الإدانة فهي تقتضي حكماً قضائياً قد يأخذ بما انتهى إليه التحقيق استناداً الى تحديد من له مصلحة في ارتكاب الجريمة، ومن ثم توجيه الاتهام ضده، وقد لا يجد أدلة كافية على هذا الاتهام. والجديد، في الحادث الأخير حتى الآن، هو أن فرانسوا الحاج ليس طرفاً في الأزمة اللبنانية الممتدة التي أوشكت على دخول عامها الرابع في رأي البعض، أو دخلته بالفعل في تصور آخرين. وتختلف زاوية النظر، هنا، وفقا لتقدير متى بدأت الأزمة؟ وهل ترجع إلى قرار التمديد للرئيس السابق إميل لحود في نهاية صيف 2004، أم إلى حادث اغتيال رفيق الحريري في منتصف شتاء 2005 ؟ ولأن مدير عمليات الجيش اللبناني لم يكن طرفاً في أي من التحالفين المتصارعين، فقد انتفى ابتداء إمكان البحث عن صاحب المصلحة في اغتياله بين الأطراف المكونة لأحدهما دون الآخر. فالأمر، هذه المرة، أكثر تعقيداً، وخصوصاً إذا جاز نظرياً تصور مصلحة لأكثر من طرف في داخل كل من التحالفين الرئيسيين في تدبير الحادث. ويعني ذلك أن الأوراق مختلطة على نحو لم يظهر، بهذا الوضوح، في حوادث الاغتيال السابقة. وإذا أضفنا إلى ذلك اغتيال الرجل الثاني في المؤسسة اللبنانية الوحيدة التي حافظت على تماسكها في ظل انقسام حاد سياسي– اجتماعي – طائفي يضرب المجتمع في بعض أعماقه، وليس فقط ساحته السياسية، نكون بالفعل إزاء خطر يفوق كل ما بدا لنا في الفترة الأخيرة، ويزداد هذا الخطر حين يبدو أن مستوى إدراكه، بصورته هذه، ليس مرتفعاً في لبنان كما في خارجه. ولكي يتضح مدى تعقيد المشهد اللبناني وامتداداته الإقليمية في ضوء اغتيال فرانسوا الحاج، يمكن أن يتجه البحث عن صاحب المصلحة في هذا الاغتيال إلى أطراف في كل من تحالفي 8 و 14 آذار، وليس في أحدهما فقط، وإلى أطراف إقليمية، فضلاً عن قوى أخرى أهمها عناصر تنظيم "فتح الإسلام" الذي قاد المغدور المعركة ضده في مخيم نهر البارد. فلا يمكن استبعاد احتمال أن يكون هذا التنظيم هو الذي يقف وراء عملية الاغتيال انتقاماً من الجيش اللبناني، وثأراً من الرجل الذي قاد عمليات هذا الجيش ضده. وربما يكون الاحتمال الخاص بمسؤولية "فتح الإسلام" عن الحادث هو الأقل خطراً في اللحظة الراهنة، بعد أن حققت جهود التوافق على رئيس جديد للجمهورية بعض التقدم. فهذا الاحتمال يتيح استبعاد سعي أي من أطراف التحالفين المتصارعين إلى تخريب التقدم الجزئي الذي حدث بشأن الاستحقاق الرئاسي ومن أجل ملء الفراغ. ولكن هذا الاحتمال يحمل في طياته خطراً كبيراً أبعد مدى على مستقبل لبنان والمنطقة. فالتنظيم المسمى "فتح الإسلام" تنتشر خلايا تابعة له في اثنين على الأقل من المخيمات الفلسطينية في لبنان. كما كان بعض قادته قد مد جسوراً مع جماعات أخرى في المنطقة تجمعها مظلة "السلفية الجهادية"، بما في ذلك تنظيم "القاعدة"، الذي مازال يتريث، فيما يبدو في بحث طلبهم الانضمام إليه والعمل تحت اسمه. ولكن هذا الاحتمال ليس إلا واحداً من احتمالات كثيرة نتيجة تعدد الأطراف التي يمكن أن يكون لكل منها مصلحة لأسباب خاصة به. وهذا هو الخطر الأكبر، الذي ينطوي عليه الحادث الذي يوضح، والحال هكذا، أن تحقيق توافق جاد ومستدام أمر صعب موضوعياً حتى إذا أمكن إنجاز الاستحقاق الرئاسي. ففي داخل كل من تحالفي 8 و 14 آذار تفاوت في المواقف تجاه هذا الاستحقاق والشروط اللازمة لإنجازه، والمدى الزمني الذي يمكن أن يستغرقه الفراغ الرئاسي الذي يوجد اختلاف في تقدير أبعاده. ولذلك لا يمكن استبعاد أن يفضل طرف ما، في هذا التحالف أو ذاك، استمرار الفراغ إذا كان ملؤه ينطوي على تكلفة يعتبرها مرتفعة بالنسبة إليه، أو إذا جاءت التسوية التوافقية ضارة، حسب رؤيته لها، بمصلحته الخاصة حتى إذا كان آخرون في التحالف نفسه مستعدين، أو حتى متحمسين، لهذه التسوية. وحين يحدث بعض التقدم باتجاه تسوية توافقية، يصبح صعباً على من لا ترضيهم هذه التسوية، في هذا التحالف أو ذاك، أن يسعوا إلى إحباطها أو عرقلتها عبر استهداف طرف ما في التحالف الآخر، وإلا كان كمن يضع بطاقته في المتفجرات المستخدمة في الحادث. ولذلك يصبح منطقياً أن يلجأ الراغب في ضرب التوافق إلى عمل يخلط الأوراق ويزيد الوضع تعقيداً. وبهذا المنطق، يجوز القول إن لأكثر من طرف في كل من التحالفين الكبيرين مصلحة – نظرياً – في تدبير حادث اغتيال فرانسوا الحاج. ويجوز، أيضاً، توسيع نطاق البحث عن أصحاب المصلحة في هذا الحادث إذا أخذنا في الاعتبار أن المغدور، كان المرشح الأول، أو على الأقل أحد مرشحين اثنين، لخلافة العماد ميشال سليمان في قيادة الجيش إذا اكتملت التسوية التي تستهدف التوافق على رئيس الجمهورية الجديد. ويقتضي البحث عن أصحاب المصلحة هنا الإجابة على سؤالين اثنين وليس واحداً: أولهما تاريخي عن الخصومات السابقة للعميد فرانسوا الحاج خلال فترة الحرب الأهلية 1975-1989، وفي مرحلتها الأخيرة على وجه التحديد حين كان قائداً للكتيبة 51، وانضم إلى العماد ميشال عون وخاض معركته ضد قوى مارونية أخرى. أما السؤال الثاني فهو تقديري عن احتمال حدوث تغير في اتجاهات المؤسسة العسكرية لو كان الحاج قد تولى قيادتها. ومن شأن إجابتين دقيقتين على هذين السؤالين أن تلفتا الانتباه إلى طرف أو آخر في كل من التحالفين (8 و 14 آذار). وهذا كله فضلاً عن احتمال أن تكون ثمة مصلحة لقوى إقليمية في تعطيل التسوية التوافقية لبعض الوقت على الأقل. ولا يصح أن يقتصر البحث، هنا، على سوريا وإيران اللتين قد تكون لهما، أو لإحداهما، مصلحة في هذا التعطيل لانتزاع تنازلات غربية في مقابل قيامهما بدور الميسر للتوافق اللبناني. فمن الصعب استبعاد أن تكون لإسرائيل، بدورها، مصلحة في تعطيل تسوية لبنانية لم يخف بعض أركان أجهزتها الأمنية والاستراتيجية قلقهم من أنها تكرس نفوذ "حزب الله"، وبالتالي إيران التي أزعجهم تقرير المجلس القومي للاستخبارات الأميركية بشأن برنامجها النووي. وهكذا يتضح أن من قد تكون لهم مصلحة في حادث الاغتيال الأخير في لبنان حتى الآن هم من الكثرة إلى الحد الذي يجعل التطلع إلى توافق حقيقي بينهم كالبحث عن إبرة في كوم من القش. ومع ذلك، فلا بديل من السعي إلى بناء هذا التوافق حجرا فوق آخر، وخطوة وراء أخرى، بكثير من الصبر والمثابرة في بيئة سياسية اجتماعية بالغة الهشاشة