لم يكن مفاجئاً أن تمعن إسرائيل في الإعلان عن يهوديتها، لكن المثير في الأمر هو أن يجعل الرئيس بوش تهويد إسرائيل هدفاً يسعى إليه، وأن يطلب من العرب ومن الفلسطينيين بخاصة أن يحققوه "كرمى" لعيون إسرائيل، مع أن الولايات المتحدة تعرف جيداً أن إعلان يهودية إسرائيل سينسف حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، ولم يسبق أن أعلنت الولايات المتحدة بوضوح أنها تستجيب لمطلب إسرائيل في رفض حق العودة. والغريب أن يتجاهل الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة راعية سلام وأن عليها تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وليس الالتفاف عليها، ولئن كان الإسرائيليون يريدون من إعلان يهودية إسرائيل أن يحققوا جملة أهداف سياسية أخرى منها تهديد الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم ولم يغادروها بالطرد، والتمهيد لضم أهم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى إسرائيل واعتبار المستوطنات أمراً واقعاً لابد من الاعتراف به، فضلاً عن تهويد القدس ونسف القرارات الدولية التي تحفظ حق الفلسطينيين بعاصمتهم التاريخية، فإن نزوع إسرائيل إلى البعد الديني والإغراق فيه ينسف ما تدعيه من علمانية وديمقراطية، ونحن ندرك أن إسرائيل تعاني أزمة هوية ومبرر وجود وأنها لا تجد عقداً اجتماعياً رابطاً لمجتمعها غير الهوية الدينية اليهودية. ولكن التأسيس الرسمي على الهوية الدينية سيحدد بشكل عملي كون إسرائيل بلد كل يهودي في العالم، وسيمنحه ذلك حق طرد أي عربي فلسطيني أو أي مسلم أو مسيحي من أرضه وبيته ليحل مكانه أي يهودي في العالم. كما أن هذا التأسيس الديني للهوية واعتبارها قومية سيبرر ظهور تأسيسات دينية أخرى في المنطقة، ونحن ندرك أن إسرائيل تسعى إلى بناء شرق أوسط جديد على أسس دينية بل مذهبية محضة كي تجد مشروعية لهويتها الدينية اللاقومية تاريخياً، وقد تنبه العرب جميعاً إلى خطورة صبغ الصراع العربي/ الإسرائيلي بصبغة دينية، واعتبروا معركتهم مع إسرائيل دفاعاً عن أرضهم وحقوقهم التي اغتصبتها الحركة الصهيونية التي تعلن العلمانية، وليست معركة مع الديانة اليهودية. والعرب محقون في ذلك فقد عاش معهم اليهود قروناً دون أية مشكلات تذكر، وفي الوقت الذي كان فيه اليهود يعانون من الاضطهاد والتمييز الديني في أوروبا إلى حد التعرض إلى الهولوكوست، وجدوا لدى العرب والمسلمين أماناً وطمأنينة ولاسيما في الأندلس حيث أخذ المسلمون مواطنيهم من اليهود معهم إلى بلدان المغرب العربي لتوفير الحماية لهم، وإلى اليوم يعيش اليهود في البلدان العربية المسلمة بأمان وطمأنينة ولم يمسسهم أحد بسوء على الرغم من ضراوة الحروب التي دارت بين العرب وإسرائيل. بل إن جل اليهود الذين غادروا البلدان العربية فعلوا ذلك مرغمين مذعنين لأوامر الحركة الصهيونية، وما يزال اليهود السوريون الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة على سبيل المثال يحملون في نفوسهم حنيناً إلى سوريا ولم يجبرهم أحد على الهجرة منها. ولئن كانت المقاومة العربية للاحتلال الإسرائيلي قد ارتدت مؤخراً ثوب الإسلام كما في جنوب لبنان وفلسطين، فإن هذه المقاومة لا تواجه اليهودية، وإنما هي تواجه الاحتلال، ولكنها وجدت في الإسلام دافعاً روحياً يجعل الموت دفاعاً عن الوطن والنفس والأهل شهادة في سبيل الله، لكن هذا الدافع الديني ليس موجهاً ضد دين آخر، فلولا الاحتلال لما كانت هناك مشكلة بين الإسلام واليهودية ولاسيما لكون الإسلام قد حضن الأديان السماوية وآمن بكتبها ورسلها، وهو يرى اليهود أهل كتاب، يشاركهم العيش حتى في تكوين أسرة، حيث يسمح الإسلام للمسلمين بالزواج من المرأة اليهودية تماماً كما يسمح بالزواج من المرأة المسيحية، بل إن الإسلام يحض الزوج المسلم على أن يأخذ زوجته اليهودية إلى المعبد، كما يأخذ زوجته المسيحية إلى الكنيسة، وألا يعترض على عقيدتها. ولابد أن القادة الإسرائيليين يدركون النتائج السلبية التي ستنجم عن إصرارهم على تهويد إسرائيل، ويعرفون أن إعلان دول دينية في المنطقة وتحويل الصراع إلى صراع ديني، سيهدد مستقبل إسرائيل، وهي تدرك خطر تحول الأديان إلى إيديولوجيات قتالية، وتعرف جيداً أن الإسلام الحاضن للديانة اليهودية يمتلك من الأسلحة الدفاعية الإيديولوجية ما يجعل الصراع مفتوحاً إلى الأبد، في الوقت الذي يرغب فيه العرب والمسلمون بإنهاء الصراع عبر حل سلمي عادل وشامل. ولهذا فإن إسرائيل تستبق الأحداث وتنشط في حركة معاداة الإسلام، وتشويه صورته عبر دعمها للتطرف والإرهاب، وتوظف وسائل الإعلام الصهيونية القوية في العالم لتقديم الإسلام على أنه دين يقدس العنف. وبوسع الباحث أن يجد يد إسرائيل وراء كل الحملات والهجمات التي تعادي الإسلام أو تشوه صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما أن يد إسرائيل الملطخة بالدماء هي وراء كل الاغتيالات السياسية والجرائم الإرهابية التي تحدث في المنطقة، وهي تفعل ذلك سراً وعلناً، فالإرهاب الذي تمارسه ضد الشعب الفلسطيني وقتل قياداته الشعبية علني ومنظم تشرف عليه الدولة، وأما العمليات الإجرامية التي تشنها جماعات متطرفة في بعض العواصم العربية والدولية باسم الإسلام، فهي ترتيب صهيوني إسرائيلي يقدم الدعم والعون للمجرمين الذين لا يمكن لهم الحصول على التقنيات الإجرامية لولا الدعم المباشر وغير المباشر الذي تقدمه إسرائيل وأجهزتها الخبيرة بالإجرام وذات التاريخ الشهير بارتكاب الاغتيالات وتفخيخ السيارات والتفجيرات، كتلك التي حدثت في لبنان وسرعان ما تتهم بها سوريا، مع أن طبيعة هذه الجرائم تكشف كونها ضد سوريا تماماً كما هي ضد لبنان. وعملية التشويه المستمر للإسلام لا يستفيد منها أحد غير الإسرائيليين المتطرفين الذين يريدون تقديم الديانة اليهودية هوية قومية لهم، ويخشون أن ينهض الإسلام بوصفه هوية مقابلة. ولقد كنت في الجزائر يوم وقعت الجريمتان الإرهابيتان في 11/12/2007 واختيار هذا اليوم ذو دلالة، فتاريخ الحادي عشر من ديسمبر مهم في الذاكرة الجزائرية لأنه يوم ذكرى انتفاضة الشعب الجزائري في العاصمة لمساندة حركة التحرير، ولم أجد مبرراً لارتكاب الإرهابيين هذا النوع الهمجي من الجرائم التي يقتل فيها أطفال وطلاب مدارس وجامعات ونساء وشيوخ آمنون في منازلهم، غير ترويع المجتمع وتقديم صورة مشوهة عن العرب والمسلمين للعالم، وبخاصة أمام أوروبا التي تحتضن المهاجرين المسلمين الذين يسعون لتقديم ثقافتهم وحضارتهم الإنسانية الغنية للغرب، ويرغبون في الاندماج الثقافي دون التخلي عن التنوع والخصوصية العربية أو الإسلامية. ونحن ندرك أن الانعكاسات السلبية لمثل هذا النوع من الجرائم التي ترتدي ثوب الإسلام زيفاً وبهتاناً، ولاسيما حين تعلن باسم "القاعدة" الوهمية يضر سريعاً بصورة الإسلام، وليس للمسيحية في العالم أية مصلحة في تشويه الإسلام الذي عاش معها في شراكة تاريخية وحضارية على مدى ألف وأربعمائة عام ونيف، فالمسيحية ولدت عربية في الأرض العربية ومنها والتحديد من دمشق انطلقت إلى العالم كله. ولا مصلحة لليهودية كذلك بوصفها ديناً في تشويه صورة الإسلام، لأن اليهودية عاشت قروناً متصالحة مع الإسلام الذي يعترف بها ديانة سماوية ويقدس أنبياءها، بل إن بعض الكتاب المنصفين من اليهود يعترفون بفضل محمد صلى الله عليه وسلم في بقاء اليهودية في العالم لأنه حافظ عليها، وضمن أمنها واستمرارها وكانت لديه القدرة والقوة على تهميشها، لكنه كان حريصاً على التوراة حرصه على الإنجيل والقرآن لأنها كتب سماوية مقدسة، والإسلام يأمر المسلمين بالإيمان بما أنزل الله فيها، لكن تهويد إسرائيل ومنحها الصفة الدينية هوية قومية قانونية، يستدعي من وجهة النظر الإسرائيلية هذا العداء المفتعل الاستباقي للإسلام الذي تعرف إسرائيل أنه سيقاوم بشدة يهودية إسرائيل التي تتخلى عن علمانيتها وعن ديمقراطيتها الشكلية كي تعلن نفسها مملكة الرب في إصرار أحمق على تحقيق الأوهام والأساطير الدينية المؤسسة لدولة إسرائيل.