كان الحج إلى بيت الله الحرام أكبر أمنياتي، وشاء الله بعد أن تخرجت من الثانوية العامة أن يحقق لي هذه الأمنية، وبدأت أعد العدة واستعد لهذا السفر المبارك. كانت والدتي وخالتي التي رافقتني وجدتي رحمها الله رحمة واسعة، في غاية السعادة والسرور وهن يشاهدنني لأول مرة في ثوب الإحرام الأبيض الخالي من المخيط، الثوب الذي يرمز في شكله ولونه إلى الطهارة والنقاء والنظافة، وأن الإنسان خارج إلى ربه من زخارف الدنيا، وفي معناه الأعمق قطعة القماش التي يلف بها الإنسان حين ولادته وعند موته ورحيله. من أجل ذلك يعد الإحرام ركناً أساسياً من أركان الحج، ولا زلت أتذكر دعاء والدتي أطال الله في عمرها، وهي تدعو لي أن يوفقني الله ويجعل سفري هذا مفتاح خير وسعادة لي في الدنيا والآخرة. كانت الساعة الرابعة والنصف عصراً عندما أقلعت بنا الطائرة من دبي إلى جدة، ومباشرة بعد أن وصلنا جدة اتجهنا إلى مكة المكرمة البلد الأمين، لنبدأ مناسك الحج متخذين في ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حجته. كنت أحمل في داخلي كماً هائلاً من الطاقة الروحية، وفي الطريق كنت أعيش أجمل مشاعري الإيمانية، كان زادي في ذلك الدعاء والتسبيح والتهليل والتلبية والذكر، ودافعي هو أن أعد نفسي جيداً للقاء المنتظر في بيت الله الحرام ومشاهدة الكعبة عن قرب لأول مرة، وكلما اقتربت السيارة من مكة زادت مشاعري فرحاً وسعادة وتشوقاً لهذا اللقاء العظيم في مكة، الذي قالت عنه إحدى الصحابيات، ما رأيت السماء في موضع أقرب إلى الأرض من مكة. حملت شوقي الجارف وأنا أدخل بيت الله الحرام لأول مرة وسرت، وعندما وقع بصري على الكعبة لم أتمالك نفسي وأنا أمام الكعبة المشرفة، فبكيت من شدة الخشوع والتأثر بمنظر الكعبة والناس حولي يطوفون، منهم من يمضي في طوافه وصلاته ومنهم من يتعلق بأستار الكعبة ومنهم -رغم مرضه وضعفه وكبر سنه- من يحمل أمه فوق ظهره ومنهم من هو في حالة شديدة من البكاء عند الحجر الأسود وقرب مقام إبراهيم متضرعاً لله أن يغفر له ذنوبه ويقيه ويرحمه من نار الآخرة. وتذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بكى وهو بجنب الكعبة وقال: يا عمر هنا تسكب العبرات. وبعد الطواف سبعة أشواط صليت ركعتين قرب مقام إبراهيم عليه السلام وتعمدت إطالة القعود صامتاً قبل التسليم لكي يطول أنسي بالله مستعيناً في دعائي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن عند التقاء الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلاة، وعند رؤية الكعبة...". ثم صعدت إلى الصفا والمروة مستعيداً ذكرى السيدة هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام وأم اسماعيل عليه السلام، عندما تركها زوجها وابنها الرضيع وحيدين وهي تبحث جيئة وذهاباً عن الماء إلى أن اكتشفت بئر زمزم التي يشرب منها الحجاج اليوم. وذروة مشاهد الحج العظيمة شاهدتها مع طلوع فجر يوم التاسع من ذي الحجة عندما خرجنا من منى إلى عرفات، حيث شاهدت اجتماع أكثر من مليوني مسلم من كل الجنسيات واللغات والألوان مجتمعين على صعيد واحد وبملابس واحدة من الظهر إلى غروب الشمس، يلبون في صوت واحد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، خاشعين خاضعين داعين الله أن يغفر لهم ويعفو عنهم ويرحمهم برحمته ويجزيهم الجزاء الكريم، حتى كاد الجبل أن يهتز من شدة خشوعهم ودعائهم. وكما ورد عن جابر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم أفضل من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض فيقول: انظروا عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين، جاءوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر تعتيقاً من النار من يوم عرفة". قضينا نهار عرفة في دعاء وذكر وخشوع وصلينا الظهر والعصر جمعاً وقصراً وشاهدنا خطيب عرفة، وهو يصعد منبر مسجد نمرة، وتذكرت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في مثل هذا اليوم العظيم عندما قال: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت... إلى آخر الخطبة. عند الغروب تحركت مع ملايين من الناس متجهين إلى مزدلفة، صلينا المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، وقمت بجمع سبعين حصاة لأرمي بها الشيطان الذي تمثل لإبراهيم عليه السلام ثلاث مرات ليغريه بعصيان أمر ربه بذبح ولده إسماعيل، وفي كل مرة كان إبراهيم عليه السلام يطرده برجمه بالحجارة، من هنا كان رجم الشيطان إحياء لسنة إبراهيم وتذكرة لمتابعة الجهاد ضد الشر والغواية، ثم نحرنا الهدي اقتداء بحكم الله في فداء إسماعيل بذبح عظيم، ثم أديت طواف الوداع وظللت أشاهد الكعبة طويلاً وأتأمل دوران الطائفين حولها في حركة لا تتوقف على مدار العام، وبذلك حقق الله تعالى أغلى أمنياتي في هذه الحياة.