يتحدث الدكتور خالد فهمي في مقدمة كتابه "ثقافة الولاء"، عن "فقه التحيز"، قائلاً إنه علم قديم، لكنه الترجمة الحالية لمصطلح ضارب بجذوره في التراث الإسلامي، ألا وهو مصطلح "الولاء" الذي يعني النصرة والتناصر، لاسيما أن "لكل مجتمع تحيزاته". وبالفعل فإن "التحيز" هو الخيط الذي ينتظم الدراسات الواردة في هذا الكتاب، أي كونها صدرت جميعاً عن عقل موال، متحيز، يعلن التزامه بمرجعية حاكمة، سواء حين يحاول الاستدلال بمصادر الاحتجاج اللغوي لإثبات أن الثقافة الإسلامية لم تقهر المرأة، أو في معرض بيانه لحقيقة أن التراكيب القرآنية متسقة تماماً مع بلاغة اللغة العربية وقواعدها، أو حين يتحول إلى المعجمية ليناقش مسائل ثقافية وفكرية من زاوية الدرس المعجمي. ففي دراسة حول "أثر شواهد شعراء النصرانية في الاحتجاج لصحة التراكيب القرآنية"، يقدم المؤلف عملاً تأسيسياً، إذ لا يكتفي بمحاولة جمع وحصر أهم الشبهات الشائعة في هذا الخصوص والرد عليها، بل يوضح أيضاً أن ما يتهم به القرآن من "احتوائه على أخطاء لغوية نحوية" موجود في شعر العرب السابق عليه، وأن القرآن خاطب العرب بمألوف لغتهم بما في ذلك تحديداً شعر شعراء النصرانية العرب. وقد أثبت المؤلف صحة التراكيب التي وردت في الذكر الحكيم، اعتماداً على ورودها في الشعر العربي الذي هو أهم مصادر الاحتجاج وأكثرها في مجال الدراسات النحوية. وبذلك يسجل المؤلف أيضاً أن الإسلام لم يمنع الاحتجاج بشعر الشعراء النصارى العرب ولم يتعصب ضدهم، فهم عرب أولاً وأخيراً. ويفتح الكتاب نافذة جديدة على "الإسهام الأنثوي في الدرس اللغوي عند العرب من منظور الرواية والاحتجاج". وهو يقف موقف المعارض للحركة النسوية في العالم العربي، والتي قامت أصلاً في سياق التاريخ الغربي لمواجهة "مركزية العقل الذكوري" والتي تبلور القيم الذكورية المستبدة المهيمنة على الحضارة، وقد كانت وسيلة الرجل الأبيض لقهر الأطراف الثلاثة: المرأة، الطبيعة، وشعوب العالم غير الغربي. ثم ينتقل المؤلف لبيان إسهام المرأة العربية في بناء صرح الدرس اللغوي في تراث الدراسات اللغوية العربية، من جانب، ومن جانب آخر يوضح أن الرجل لم يستنكف عن أن يروي عن المرأة ولها، أو عن أن يدون إسهامها في كبريات الكتب اللغوية العربية، أياً كان نوع هذه الكتب أو مجالها المعرفي الخاص، منذ بدء ذلك النشاط العلمي في نطاق الثقافة العربية الإسلامية. بل إن الرجل كان يسعى بشوق إلى المعرفة والأخذ من شيخات كان لهن دور رائد في تاريخ العلم عند المسلمين، لدرجة أن ابن الجوزي يذكر كثيرات في كتابه "أعمار الأعيان" كان لهن أثر بارز في الحضارة العربية. وفي دراسة أخرى من دراسات الكتاب، يبحث المؤلف مسألة "إيثار الوضوح والفرار من المبهم"، كاشفاً عبر قراءة متعمقة للتراث النحوي، وعلى ضوء مقاصد الإسلام وفلسفته العامة، عن وجوه جديدة من التأويل لها قدرة على تعديل عدد من الأحكام القارة في الدرس الحديث الذي همش في تحليله فكرة تداخل الاختصاصات وتكامل البنية المعرفية في التأليف العربي الإسلامي القديم. وقد حاول المؤلف أن يقرأ تراجم بن سيبويه في ضوء نظرية المقاصد الشرعية التي تتغيا، في ما تتغياه، تحقيق مقصد الإفهام والبيان والإيضاح. ويتطرق المؤلف في دراستين عن المعاجم الثنائية ذات المداخل العربية في التراث اللغوي العربي"، و"أثر إرادة الإقليم في انتقال الألفاظ الإسلامية إلى المعاجم الأجنبية"، إلى أهمية الترجمة كركيزة للتفاعل الثقافي، موضحاً أن غرض المعاجم الثنائية (العربية الفارسية)، كان هو التواصل بين لسانين، ونقل مفاهيم الإسلام إلى أبناء البلاد الذين آمنوا به، أي أن "القرآن الكريم، ودراسته، وبيان ما فيه من أصول تشريعية، باعتباره دستور الإسلام، هو الباعث الحقيقي الذي أسهم في نشأة المعاجم الثنائية ذات المداخل العربية". ونجد في الكتاب تأكيداً على أهمية البيئة الطبيعية والمعنوية لكل إقليم في تشكيل لغته، أي إعلاءً من قيمة "استفتاء إرادة الإقليم أو خصوصية المكان" في مبحث التعريب، لاسيما فيما يتعلق بمعرفة أصل الألفاظ الوافدة أو الدخيلة في لغتنا. وهو ما يوضحه الكتاب في دراسة أخرى حول "العناية بالمُعرّبَ في القرن العاشر الهجري"، وفيها يتلمس بعض التجليات الرئيسية لفكرة تقدير الآخر، وأثر ذلك على الانسجام المعرفي في بنية الثقافة العربية الإسلامية. لكن هل كان ذلك القرن قرن انهيار حضاري أم كان قرناً صبغت فيه المجتمعات الإسلامية بالتحضر؟ يحاول المؤلف الإجابة على ذلك التساؤل اعتماداً على "اللغويات الفاحصة"، أي باستثمار مسائل علم اللغة في فحص عدد من المقولات الاجتماعية، لاسيما في علم اجتماع الثقافة المتعلق ببنية المجتمعات العربية الإسلامية من خلال ما وصل إلينا من تراثها، وإنتاجها الفكري في جانبه اللغوي. وذلك على الأقل ما توضحه عنايتها الفائقة بالمعرب، أي كونها لم تنف الآخر مطلقاً، بل احتضنت الكثير من ألفاظه اللغوية، لاسيما خلال القرن العاشر الهجري، كما يتضح ذلك عند بن كمال باشا، وكما يظهِره جلال الدين السيوطي من خلال النص القرآني نفسه. محمد ولد المنى الكتاب: ثقافة الولاء المؤلف: د. خالد فهمي الناشر: إيتراك للطباعة والنشر والتوزيع تاريخ النشر: 2007