عاش العرب طموحات الوحدة منذ الحرب العالمية الأولى. وبلغت ذروتها في الخمسينات والستينات إبان حركات التحرر الوطني والحقبة الناصرية. وقامت تجارب عديدة بعد إنشاء جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية للدول العربية، مثل الجمهورية العربية المتحدة 1958- 1961، ثم الوحدة الرباعية بين مصر والعراق والأردن واليمن. وبعد حربي الخليج الأولى والثانية انفك العقد. واستبدل بذلك كله لجان التنسيق بين كل دولتين جارتين، مصر وليبيا، مصر والسودان، مصر والأردن، أو بين كل دولتين جارتين عربيتين بينهما تواصل تاريخي وثقافي واقتصادي بصرف النظر عن التواصل الجغرافي مثل مصر وتونس، مصر والجزائر، مصر والمغرب... الخ. ومن أنجح تجارب طموحات الوحدة، تجربة مجلس التعاون الخليجي بفضل التواصل الجغرافي والتاريخي والثقافي واللغوي، وبمبادرة من قادة دول الخليج العربية وبنوع من الاستمرارية والتدرج، وفي عصر التجمعات الإقليمية والتكتلات الكبرى. لا حدود بين دولها، ولا تأشيرات دخول، ولا مواطنة مجزأة. والعملة الموحدة في الطريق، وأخيراً تم إنشاء السوق الخليجية المشتركة. فالاقتصاد عصب السياسة كرد فعل على التجارب الوحدوية الأولى التي كانت سياسة بلا اقتصاد، ودولاً بلا شعوب، ونظماً سياسية متباينة دون رؤية قومية واحدة. ورؤوس الأموال متوافرة من زيادة عوائد النفط المتتالية منذ حرب أكتوبر 1973 والتي بلغت أكثر من ثلاثين ضعفاً، ومرشحة للازدياد إلى ستين ضعفاً في السنوات القادمة خاصة إذا اندلعت الحرب لأي سبب في المنطقة، حتى لا تبقى للعرب قوة عسكرية بعد تدمير العراق، أو اقتصادية بعد تغيير موازين القوى في الخليج. وإذا كان العرب قد أضاعوا الثورة فمازال الأمل موجوداً في عدم ضياع الثروة، واستثمار عوائد النفط المتراكمة في التنمية الشاملة للوطن العربي الذي يمتلك المال والأرض والمياه والعمالة والخبرة الكافية كي يتحول من دول نامية إلى دول متقدمة. وتجارب ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا خير شاهد على ذلك. وللخليج موضع جغرافي فريد. فهو على الضفتين العربية والآسيوية في الغرب والشرق تمنحه قدرة على أن يكون مركز اتصالات عالمية بين الشرق والغرب. وهو ما يحدث الآن في دبي. وهو نقطة التقاء بين الشمال العربي في العراق والشام الكبرى والجنوب الأفريقي. ويمكن أن يكون للخليج نفس المركز الذي كان لقناة السويس في ربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب. وهو المركز الذي تطمح إليه إسرائيل بشق قناة مائية جديدة بين البحر الميت والبحر الأبيض المتوسط لخلق مركزية إسرائيلية جديدة بدلاً من المركزية العربية في الخليج ومصر. يحتاج الخليج إلى سياسة توازن بين شرقه الآسيوي وغربه العربي، وليس توازناً بين شيعة وسُنة. فهذه أسطورة خلقها الغرب لبث الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وزرع الشقاق بين دول الجوار، إيران والخليج أو إيران ومصر أو إيران والعراق، وحتى لا يميل الميزان نحو إحدى الضفتين بفعل القرب الجغرافي أو الثقل السكاني أو المصالح المشتركة. لقد كان موقف حسن نية واضح من دول الخليج العربية دعوة إيران لحضور اجتماع مجلس التعاون الخليجي الأخير. فإيران مطلة على الخليج مثل دول الخليج. والمصالح الاقتصادية معها أكبر من المصالح مع الغرب الأوروبي والأميركي والشرق الأقصى الآسيوي. والخلاف المذهبي هو نوع من التعددية الفكرية داخل المذاهب. وداخل كل مذهب هناك تعدديات وفروع لا تنتهي. والتعارض والتهديد الإقليمي مسألة خلقها الغرب بوجه عام وأميركا بوجه خاص لإزاحة التعارض بين العرب وإسرائيل أو العرب وأميركا. وهو تعارض فعلي بعد غزو أميركا للعراق واحتلال إسرائيل لكل فلسطين، وخلق تعارض بديل بين إيران والعرب. والتعاون الاقتصادي كفيل بالتعاون السياسي، وطريق ذلك هو حل قضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران، وبما يحقق مصالح الطرفين. التكامل الاقتصادي الإقليمي بين الشعوب، واحترام حقوق دول الجوار، هو خير وسيلة لحل قضية النزعات المتعلقة بالحدود التي زرعها الاستعمار بعد نشأة الدول الوطنية لمنع التعاون الإقليمي وخلق بؤر توتر دائم قد تنتهي إلى حد الصراع المسلح، وتغليب التناقض الفرعي بين العرب والعرب مثل المغرب والجزائر في قضية الصحراء، أو العرب والمسلمين مثل قضية الجزر الإماراتية المحتلة من طرف إيران، على التناقض الرئيسي، الصراع العربي/ الإسرائيلي وحقوق شعب فلسطين. ومن أجل الحفاظ على أمن الخليج بالحفاظ على توازنه بين جناحه الشرقي الآسيوي، وجناحه الغربي العربي، فإنه يمكن دعوة مصر أيضاً لحضور مجلس التعاون الخليجي والانضمام إلى السوق الخليجية المشتركة. فمصر وإيران دولتان من الدول المهمة في المنطقة. يجمعهما التاريخ المشترك والحضارة المشتركة والمصالح المشتركة والمخاطر المشتركة. ويستطيع ميزان التعادل هذا دعم عناصر قوة الخليج سكانياً ولغوياً وثقافياً في الحياة اليومية وسياسياً واقتصادياً في الحياة العامة. وقد كان هذا هو الهدف من إعلان دمشق. ويمكن إعادة تفعيله لمصلحة الأمن القومي في الخليج العربي على الأمد الطويل. وعلى هذا النحو تصبح العمالة العربية في الخليج عنصراً إيجابياً لا سلبياً لإيجاد التوازن قدر الإمكان مع العمالة الآسيوية المؤقتة التي هي الآن العنصر الغالب. وإذا كانت القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية قادرة على توجيه قرارات الأمم المتحدة لصالحها وإملاء إرادتها عليها فإنه يمكن في لحظة غضب على المنطقة العربية ورفضها التطبيع مع إسرائيل قبل إحلال السلام وقبول مبادرات العرب التي تنص على "الأرض مقابل السلام" اتخاذ مواقف تلحق الضرر بالتوازن السكاني في بعض الدول العربية. وحرصاً على عروبة الخليج وإيجاد عنصر التوازن بين ضفتيه الآسيوية والعربية يتم استثمار جزء من عوائد النفط لتنمية الوطن العربي من أجل تكامله اعتماداً على العمالة العربية وحلاً لمشكلة البطالة فيه. كما يساعد ذلك على تدعيم الأمن القومي الداخلي في الخليج وتقليل المخاطر الخارجية المحتملة من إسرائيل وأميركا ودفاعاً عن الأمن القومي بتأمين مصادر النفط، في الخليج بضفتيه الشرقية والغربية، الآسيوية والعربية. وهو تحقيق لاتفاقية الدفاع العربي المشترك التي مازالت حبراً على ورق والتي لم تستطع صد الغزوات على الوطن العربي من خارجه، أميركا وإسرائيل، أو من داخله، العراق. وفي هذه الحالة لا لزوم للقواعد العسكرية الأجنبية داخل الوطن العربي وفي مياهه الإقليمية، فدفاع الوطن العربي عن نفسه كافٍ لحمايته من الأطماع القُطرية والأجنبية. من المخاطر المحدقة بالوطن العربي تآكله من الأطراف، من الطرف الآسيوي شرقاً في العراق والخليج، ومن الطرف الأفريقي جنوباً، السودان والصومال وزنجبار وموريتانيا، وانحسار العروبة في شمال تشاد ومالي وانحسار الإسلام في باقي الدول الأفريقية في جنوب الصحراء. كما قد تتآكل حدود الوطن العربي الشمالية من مخاطر الفرانكفونية والتوجه الغربي نظراً للقرب الجغرافي بين المغرب العربي وأوروبا، وإقامة تعاون مغاربي أوروبي لحساب فرنسا بدلاً من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير لحساب الولايات المتحدة الأميركية وابتلاع الوطن العربي كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه ووسطه في مصر عبر الأطلسي وكمجال حيوي للإمبراطورية الأميركية الجديدة. فإذا غاب المركز ضمرت الأطراف أو شلت (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) وإذا احتجبت مصر انفرط العقد وتفرق العرب زرافات ووحداناً.