شهدت الشهور الأخيرة جهوداً حثيثة من قبل العديد من الجهات الحكومية على صعيد قضية الأخطاء الطبية، وخصوصاً في مجال إصدار التشريعات والنظم التي توفر الحماية للمرضى ضد هذا النوع من الأخطاء. ففي بداية الأسبوع الماضي، صرح وزير العدل بعزمه على إنشاء محاكم طبية، ضمن خطة الوزارة لإنشاء محاكم متخصصة تعنى بشؤون البيئة، وقضايا الجرائم الإلكترونية، بالإضافة إلى المسؤولية الطبية. وفي الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر، نشرت جريدة "الاتحاد" على صفحاتها خبراً، مفاده أن أمانة المجلس الوطني الاتحادي قد تسلمت مشروع قانون اتحادي، بشأن المسؤولية الطبية، تمت إحالته للجنة الشؤون الصحية للبدء في مناقشته، قبل عرضه على المجلس خلال دور انعقاده الثاني في الفصل التشريعي الرابع. وفي بداية نفس الشهر، خرج وكيل وزارة الصحة بتصريح أثناء إحدى جولاته التفقدية، ذكر فيه أن نسبة الأخطاء الطبية داخل مستشفيات الدولة تبلغ 1.5% في المئة من مجمل الحالات الطبية، وأن تكلفة إصلاح هذه الأخطاء تبلغ سبعة أضعاف تكلفة العلاج العادي. وقبل أن نتعرض لروح القانون المقترح، وتأثيراته المتوقعة على أفراد المجتمع الطبي، وعلى الممارسات الطبية اليومية داخل الدولة، ينبغي أن نتوقف قليلاً عند قضية الخطأ الطبي، وحدود المسؤولية فيه، وسبل الوقاية من وقوعه وتكراره. هذا النقاش لابد وأن يبدأ بتفرقة واضحة وقاطعة، بين الجريمة الطبية وبين الخطأ الطبي. أفضل مثال لإظهار هذا الفارق المهم والأساسي، هو استئصال الطبيب لكلية مريض، بغرض بيعها لمريض آخر في حاجة لزراعة كلية، وهو ما يندرج قطعاً تحت نطاق الجريمة الطبية. أما استئصال الكلية اليمنى السليمة مثلاً، بدلاً من الكلية اليسرى المريضة، فيندرج حينها تحت نطاق الخطأ الطبي (Medical Malpractice). حيث تعرف المراجع القانونية الخطأ الطبي على أنه الفعل -أو أحياناً عدم الفعل- من قبل أحد أفراد الطاقم الطبي، الذي يتنافى مع معايير الممارسات الطبية المتعارف عليها داخل المجتمع الطبي، بحيث يتسبب في ضرر للمريض. أو بشكل آخر، فإن الخطأ الطبي هو نوع من الإهمال المهني من قبل أحد أفراد الطاقم الطبي، ينتج عنه ضرر للمريض، ولذا أحياناً يستخدم مصطلح الإهمال الطبي بدلاً عن مصطلح الخطأ الطبي. وهو ما يتوافق مع المادة الرابعة عشرة من القانون الاتحادي المقترح، والتي عرَّفت الخطأ الطبي: بأنه الخطأ الذي يرجع إلى الجهل بأمور فنية يفترض في كل من يمارس المهنة الإلمام بها، أو كان هذا الخطأ راجعاً إلى الإهمال أو عدم بذل العناية اللازمة. وتنتشر الأخطاء الطبية في جميع دول العالم، إلى درجة أن بعض التقديرات تشير إلى أن واحداً من بين كل عشرة أشخاص أو 10% ممن يدخلون إلى المستشفيات للعلاج، يتعرضون لضرر صحي وبدني نتيجة ما يتلقونه من علاج أو بالتحديد نتيجة للخطأ الطبي. ومن بين هؤلاء، سيصاب 6% بعجز دائم أو عاهة مستديمة، بينما سيلقى 8% حتفهم نتيجة تلك الأخطاء. هذه هي الحقائق والأرقام التي تظهرها دراسة صادرة عن معهد الطب الأميركي (Institute of Medicine)، والتي تظهر واقع الأخطاء الطبية وتكلفتها الإنسانية في أكثر دول العالم تقدماً في العلوم الطبية، وأكثرها إنفاقاً على الرعاية الصحية والعلاج. ولا يختلف الوضع كثيراً في بريطانيا، حسب دراسة صدرت عن الوكالة الوطنية لسلامة المرضى (National Patient safety Agency)، قدرت أن الأخطاء الطبية مسؤولة عن وفاة 72 ألف مريض سنوياً في المستشفيات البريطانية. وتقدر الوكالة أن واحداً من بين كل عشرة مرضى يتم حجزهم في المستشفيات الحكومية، يصاب بدرجة ما من الضرر من جراء ما يتلقاه من علاج. وبخلاف تقدير حجم المشكلة، تختلف الجهات المحلية مع الجهات الصحية الأميركية والبريطانية، وغيرها من دول العالم، في طريقة التعامل المقترحة. فحسب الأخبار التي تواترت في الصحافة المحلية خلال الأسابيع القليلة الماضية، يبدو أن المنهاج المقترح يتجه للتعامل مع هذه القضية من المنظور القانوني البحت، المترسخ حول الجريمة والعقاب. فالقانون المقترح يتضمن خمساً وثلاثين مادة، خصص الفصل الخامس منها بأكمله (للعقوبات)، وخصوصاً الحبس والسجن. والملاحظ في الوقت ذاته أنه من العسير الوقوع على خبر أو تصريح، يشير إلى جهود محددة من قبل الجهات الصحية نحو خفض احتمالات حدوث الأخطاء داخل بيئة العمل الطبية، التي تتميز بالتعقيد الشديد، والضغوط النفسية والبدنية الهائلة. فأي محاولة لخفض الأخطاء الطبية، لابد أن تتضمن سياسات إدارية، ونظماً تدريبية، واستثمارات مالية، واستخداماً ذكياً لما تقدمه التكنولوجيا الحديثة من حلول، بدلاً من الاختزال القانوني البسيط، واللجوء لتقطيع أوصال وأطراف كل من يرتكب خطأ. والخلاصة أن قضية الأخطاء الطبية، هي قضية عالمية، بالغة التعقيد، لن نتمكن هنا من سبر جميع جوانبها. ولذا نهيب بالمجلس الوطني الاتحادي، منح المشروع المقترح المزيد من المداخلات، ليس فقط من قبل القضاة ووكلاء النيابة، بل أيضاً ممن هم في الصفوف الأولى للرعاية الصحية، مع ضرورة الاستفادة من خبرات الدول الأخرى. ويخطئ من يعتقد أن تبعات هذا القانون ستقع على الأطباء فقط، بل سيتأثر بها سلباً وإيجاباً أيضاً جميع المرضى، من خلال ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية، ولجوء الأطباء لممارسات الطب الدفاعي (Defensive Medicine)، وخفض قدرة الدولة على اجتذاب الأطباء الأكفاء، مع تغيير طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض من الأساس. د. أكمل عبد الحكيم