لئن كان من الصعب عادةً أن تتحقق لرجال السياسة أحلامهم في المواعيد التي يختارونها سلفاً، فإن الإعلان عن فوز "لي ميونغ -باك" مرشح "الحزب الوطني الكبير" بالرئاسة في كوريا الجنوبية جاء في ذكرى عيد ميلاده، يوم الأربعاء 19 ديسمبر، ولم يعكر فرحة هذا الإنجاز سوى ما رافقه من إعلان عن تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في قضية فساد ما فتئ خصومه الليبراليون ينفخون في كيرها المستعر طيلة الحملة الانتخابية الرئاسية. وقد عنى فوز زعيم التيار المحافظ في بلاد الشمس المشرقة، ووصوله في نهاية الاستحقاق إلى البيت الأزرق (مقر الرئاسة الكورية الجنوبية) تتويجاً لمسيرة شخصية مكللة بالنجاحات المهنية والطموحات الشخصية، وتتألق على جنبات طريقها خطوات حياة حافلة بالالتزام السياسي والأحلام الكبيرة على حد سواء. وقد فاز مرشح "الحزب الوطني الكبير" GNP "لي ميونغ" بفارق كبير نسبياً أمام أقرب منافسيه مرشح وسط اليسار "شونج دونج- يونج"، هذا مع ضعف عام في نسبة إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع في نهاية حملة رئاسية فشلت بشكل واضح في جذب اهتمام قطاعات واسعة من الناخبين الكوريين الجنوبيين، وطغت عليها تداعيات فضيحة شركة BBK الاستشارية، التي شكلت لجنة تحقيق في 17 ديسمبر لمعرفة مدى صلة "لي ميونغ" شخصياً بها، ومدى مسؤوليته عن مخالفاتها القانونية، وقد بلغ "المقلب" السياسي ذروته التراجيدية بعرض شريط فيديو يعترف فيه "لي" شخصياً بالمسؤولية عن تأسيس الشركة المذكورة، بعد أن كان نفى بشدة أية صلة تربطه بها. ومع أن الزعيم الكوري الجنوبي الجديد طرب كثيراً بعدما أصبح "رئيس مجلس إدارة كوريا الجنوبية" كما سمى هو نفسه، فإن ما ينتظره من تحديات اقتصادية أكبر بكثير من أن تكفي للتعامل معه التشبيهات البلاغية والإتكاء على الكاريزما الشخصية أو حتى التلويح بالعصا السحرية. وهذه حقيقة يعرفها الرجل الذي غذى خطابة حملته الانتخابية بإطلاق وعود إصلاحية كيفما اتفق، بداية بخفض الضرائب، والرفع من أداء القطاع العام، وانتهاءً بضخ المزيد من الاستثمارات بهدف توفير فرص العمل. وقد رفع "لي" طيلة الحملة الانتخابية المحمومة شعارات برنامجه الإصلاحي "خطة 747"، وهذه الأرقام الثلاثة اختصار يعني: معدل نمو اقتصادي سنوي لا يقل عن 7%، ودخلاً فردياً لا يقل عن 40 ألف دولار، واقتصاداً كورياً يحتل الترتيب الـ7 عالمياً بدل ترتيبه الحالي الـ13. ولكن مَن هو "لي ميونغ –باك"... السيرة والمسيرة؟ وما هي تداعيات انتخابه على فرص استمرار سياسة الانفتاح على الشطر الكوري الشمالي؟ وما أثر ذلك استطراداً على استمرار التحالف التقليدي بين البيتين الأبيض والأزرق؟ ولد "لي ميونغ - باك" يوم 19 ديسمبر 1941 في مدينة أوساكا اليابانية، عندما كانت كوريا خاضعة للاستعمار الياباني، وكان ترتيبه الخامس بين إخوته السبعة، ضمن أسرة فقيرة، عادت سنة 1945 لتستقر في موطنها الأصلي وتحديداً بمنطقة "يونجيل- جون" بمقاطعة "جيونج سانج" الكورية الجنوبية. وفي طريق العودة أدى غرق الباخرة إلى فقدان العائلة لكل ما تملك، ما جعلها تبدأ في وطنها من مستوى الصفر لتدبير معيشتها في بلاد لم تكن بعد قد عرفت حتى بدايات طفرتها الاقتصادية اللاحقة. وفي هذه الظروف العائلية القاسية لم يولد "لي" وملاعق الذهب تنهال على فمه، بل على العكس، لقد غسل بكلتا يديه الملاعق وجمع نفايات الشوارع وباعها لتدبير أقساط دراسته الجامعية. وفي سنة 1964 اعتقل "لي"، الذي اجتذبته الحياة السياسية مبكراً، وقبع في السجن لفترة 6 أشهر على خلفية نشاطاته الاحتجاجية المعترضة على تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين بلاده الأصلية، ومسقط رأسه اليابان. وبعد تخرجه تولى إدارة شركة "هيونداي" خلال الفترة من 1977 إلى 1992، حيث وصل إلى منصب "الرئيس المدير العام" للشركة العملاقة سنة 1988. ومنذ سنة 1992 أصبح "لي ميونغ" نائباً في البرلمان الكوري الجنوبي، ثم عمدة للعاصمة سيئول خلال الفترة من 1 يوليو 2002، إلى 30 يونيو 2006. وقد سجل له سكان العاصمة إنجازاته الكبيرة في مجال التخطيط والتحديث العمراني. وعلى رغم الفوز العريض الذي حققه فإن الكثيرين ينظرون إلى الرئيس الكوري الجنوبي المنتخب على أنه "رجل من الماضي"، يحاول إعادة تدوير نفسه من خلال إحاطتها بشبكة معقدة من الادعاءات والأساطير، وذلك لأن كوريا الآن تختلف تماماً عن كوريا الربع الأخير من القرن العشرين التي تعد نجاحات الرجل إيقونة من إيقونات صعودها العجيب. ولئن كان الإعلام الكوري الجنوبي قد سهل على "ميونغ" مهمة صناعة أسطورته السياسية والشخصية الخاصة، من خلال إنتاج برامج تلفزيونية شهيرة عرضت خلال التسعينيات عن إنجازاته العصامية الخرافية على رأس شركة "هيونداي"، فإن استمرار إقناع هذه الأسطورة بات مرتهناً –للمفارقة- بقدرة الرجل على تجاوز ماضٍ سياسي، هو وحده ما أخذ منه شرعية وصوله إلى سدة الرئاسة. وتزداد صعوبة هذا التجاوز إذا عرفنا أن "لي ميونغ" يقود الجناح الأكثر تشدداً ضمن صفوف التيار المحافظ في كوريا الجنوبية، ممثلاً في "الحزب الوطني الكبير" GNP الذي ظل التشكيلة المحافظة الأبرز في المعارضة الكورية الجنوبية خلال العشر سنوات الماضية من حكم اليسار الليبرالي. ومواقف الحزب التقليدية المتشددة خاصة في توصيف العلاقات مع الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، هي ما جعل كثيراً من المراقبين يتوقعون حصول انعطافة حادة في توجهات سيئول، إن لم يكن نهاية لسياسة التطبيع والانفتاح على "بيونج يانج" التي طالما اتبعها الرئيس الليبرالي "رومو هيون". وستعني أية انتكاسة في سياسة الانفتاح إجهاضاً سريعاً للنهاية شبه المعلنة للحرب في شبه الجزيرة الكورية. تماماً كما ستعني افتراق طريق بين مقاربة واشنطن المندفعة باتجاه تطبيع العلاقات مع نظام "كيم يونج إيل" بعد قبوله تصفية ملفه النووي، وسيئول إن تمنعت عن الاستمرار في تبني سياسة التطلع إلى شطرها الشمالي عبر الكوريدور الأميركي تحديداً. ومعظم الخيارات المتاحة أمام "لي ميونغ" هنا بالغة الصعوبة، بين الوفاء لمواقفه المحافظة "المبدئية" المتشددة ضد أشقائه الشماليين، والاستمرار في مشاطرة حلفائه الأميركيين مواقفهم بعدما قرروا نفض أيديهم من عش الدبابير الكوري الشمالي. و"لي ميونغ -باك" متزوج وأب لخمسة أطفال، ويتوقع أن يستلم مهامه يوم 25 فبراير 2008، إذا لم تجد لجنة التحقيق البرلمانية أن ثمة ما يحول دون ذلك ضمن تداعيات قضية BBK وسيعني دخوله إلى مقر الرئاسة في البيت الأزرق حصانة كاملة وطياً لذلك الملف الشائك إلى غير رجعة. وهي نهاية سعيدة لاشك أن "لي ميونغ" يعد الساعات والدقائق في انتظارها بصبر نافد، لمواجهة تحديات المسؤولية ولمطاردة شياطين التفاصيل. حسن ولد المختار