من القضايا التي انشغل بها فكر الخمسينيات والستينيات قضية "الالتزام" في الفكر والفن. وكان السؤال المطروح كما يلي: هل على المثقف أن ينقطع إلى موضوعاته الثقافية بوصفها غاية في ذاتها فيعطي لنفسه كامل الحرية لينقطع إلى الإبداع الفكري والفني معبراً عبره عن ذاته، مشاعره ومخيلاته وتطلعاته كذات، كعالم خاص، أم أن عليه أن يتجه بمنشآته الفكرية والفنية إلى التعبير عن آلام الناس وتطلعاتهم.. الخ؟ كانت المقولة المعبرة عن الاتجاه الأول هي من قبيل شعار "الفن من أجل الفن"، أما الاتجاه الثاني فكان شعاره "الثقافة التزام". كان شعار "الفن من أجل الفن" وما في معناه قد انتقل من أوروبا في أواخر النصف الأول من القرن الماضي إلى العالم العربي، وبالتحديد إلى مصر ولبنان حيث ظهرت مجلات "رفيعة" وجمعيات خاصة تبشر بهذا التيار. وكان أقرب إلى شعار "الحداثة" السائد اليوم، مع هذا الفارق وهو أن "الآخر" في كل منهما لم يكن واحداً. كان "الآخر" بالنسبة لتيار "الفن من أجل الفن" يقع داخل "الحداثة" بينما "الآخر" بالنسبة للحداثة يقع خارجها وفي موقع الخصم لها. تيار "الفن من أجل الفن"، لم تكن له قضية سوى قضيته هو نفسه، كان الفن والثقافة بالنسبة له للنخبة وليس لغيرها، فالثقافة هي شأن "النخبة" وبالتالي فليس ثمة "شراكة" مع أي "آخر"، لا سلباً ولا إيجاباً. والاختلاف والتعدد يقعان داخل النخبة وليس خارجها. الثقافة والفن ملك خاص لـ"علية المثقفين"، وقضاياهما تخص هذه "العلية" وحدها. وهي قضايا تدور حول "الشكل"، أما المضمون فقيمته الثقافية هي في طريقة التعبير عنه لا غير، وإلا استوى "الكلام" و"الهذيان" بـ"الثقافة". في هذا الجو ظهر مفهوم "الثقافة الوطنية" في العالم العربي ، بوصفه بديلاً عن الثقافة الاستعمارية: مفهوم يعبر عن واقع ملموس ضد واقع آخر ملموس. لم يكن ينظر إلى مفهوم الثقافة الوطنية من زاوية الشكل، بل كان تحديده يتم ابتداء من الوضعية الاجتماعية والتاريخية التي تعيشها الشعوب المستعمرة المناضلة من أجل سيادتها الوطنية وتحررها القومي. ومن هنا تلك السمة الأساسية المميزة للثقافة الوطنية في مفهومها الشائع آنذاك، ألا وهي ارتباطها العضوي بالكفاح التحرري ضد السيطرة الاستعمارية والنفوذ الإمبريالي بمختلف مظاهرهما وأشكالهما. وبناء على ذلك فإن "الثقافة الوطنية" لا تعني شيئاً مقابلاً للثقافة الإنسانية أو الفكر العالمي، إنها ليست البديل لا لهذا ولا لذاك، وإنما الثقافة الوطنية مفهوم وضع في مقابل الثقافة الاستعمارية، سواء تلك التي نبتت في بلاد المستعمر نفسه، أو التي أنشأها في البلاد المستعمَرة له أو التابعة لنفوذه بشكل من أشكال التبعية. الاستعمار ليس تحكماً سياسياً وحسب، ولا سيطرة اقتصادية لا غير، وإنما هو أيضاً، تسلط حضاري- ثقافي. وإذا كان الغزو الاستعماري السياسي قد استهدف في الغالب تقويض البنيات السياسية القائمة ليغرس مكانها جهازاً سياسياً وإدارياً عصرياً يخدم مصالحه ويثبت وجوده، وإذا كان الغزو الاقتصادي الاستعماري قد استهدف نهب البلاد الخاضعة لنفوذه وإقامة قواعد متينة لضمان السيطرة عليها، فإن الغزو الثقافي هو الجانب المكمل لكل ذلك: طمس معالم الثقافة الوطنية، إقامة بناء ثقافي جديد يكيِّف البلاد وشعبها لطمس معالم شخصيتها وإعداد فريق من أبنائها ليكونوا سدنة للاستعمار، وأدوات لخدمة مصالحه والحفاظ على نفوذه وسيطرته. وبعبارة أخرى إن الثقافة الاستعمارية تستهدف دوماً غايتين متكاملتين: فصل الشعب المستعمر (بالفتح) عن ماضيه وحضارته وصرفه عن حاضره، بتفكيك كيانه المادي والمعنوي من جهة، والعمل على إدماجه في كيان الدولة المستعمِرة إدماجاً يجعل منه أداة لها ومطية، من جهة أخرى. وهكذا، فعندما قامت الشعوب المستعمَرة بانتفاضاتها التحررية التي توجت بالاستقلال السياسي، وجدت نفسها مفصولة عن ماضيها، بعيدة عن ثقافتها، مشدودة بالرغم منها إلى ثقافة المستعمر وحضارته. لقد عمل الاستعمار على فرض ثقافته، لغته وتاريخه وحضارته، بنفس الأسلوب الذي فرض به سيطرته السياسية والاقتصادية. وكما أن الاستعمار لا يدخل من الأساليب الاقتصادية الحديثة إلى البلدان المستعمرة إلا ما يُمَكِّنه من استغلال خيرات هذه البلدان بأيسر الطرق وأقربها، فكذلك يفعل في الميدان الثقافي: إنه لم يعمل على نشر الثقافة العصرية لذاتها، بل فقط من أجل أن يخلق في الوطن المستعمر الأدوات المحلية اللازمة له لتعميم سيطرته الاقتصادية ونفوذه السياسي وضمان الاستمرار لهما. إن المستعمر (بالكسر) لا ينقل كل ثقافة بلاده إلى الشعب المستعمر، لا ينقل العلم والخبرة الفنية، ولا الفلسفة الثورية، وإنما ينقل فقط ما يجعل هذا الأخير يرتبط به دون شعور، ليعمل بنفس الصفة كأداة تخدم مقاصده وأهدافه. ذلك ما كان يبشر به في الخمسينيات زعماء الحركات الوطنية المعادية للاستعمار أمثال الرئيس الغيني أحمد سيكوتوري، المثقف الوطني الأفريقي. يقول مثلاً: "لقد تعلمنا نحن الأفريقيين في مدارس الاستعمار تاريخ فرنسا، وحروب الغال، وحياة جان دارك ونابليون، وقرأنا أشعار لامارتين، ومسرح موليير، ودرسنا التنظيم الإداري لفرنسا، كما لو كانت بلادنا أفريقيا بدون تاريخ ودون واقع جغرافي، ودون قيم، ودون أخلاق. لقد قدم الاستعمار لنا من العلم والثقافة القدرَ الذي يرى أنه يخلق منا آلات ترتبط مصالحها بعجلة الاستعمار. لقد أراد المستعمرون للمعلم الأفريقي أن يظل في مستوى ثقافي منحط، حتى يخرج تلاميذه على يده أشد انحطاطاً. لقد أراد المستعمرون للمثقفين الأفريقيين أن يفكروا بديكارت وبرجسون، ولم يسمح لهم بالتفكير في قيمهم وثقافتهم وتراثهم الأفريقي". وإذا كان هذا الذي قاله سيكوتوري ينطبق على بلدان أفريقيا السوداء، فهو يصدق أيضاً على أفريقيا البيضاء، على شعوب المغرب العربي. وقد قدر لي أنا شخصياً، في الأربعينيات من القرن الماضي، أن أعايش في المدرسة الابتدائية خاصة، هذا الذي تحدث عنه سيكوتوري، مما يسمح لي بأن أكون شاهداً على صحة كل كلمة في هذا الذي قاله. وهذا الذي فعله الاستعمار ولا زال يفعله، مباشرة أو بوسائط محلية، لم يكن تدبيراً عشوائياً، وإنما كان مخططاً مدروساً بعناية منذ البداية، كان غزواً منظماً محكماً، صادراً عن فكر واع، وتخطيط دقيق. وقد سبق لي أن نشرت دراسات وأبحاثاً حول الموضوع بالنسبة للمغرب خاصة. وأمام هذا الحضور البارز والمتواصل لثقافة المستعمر ولغته بقي رد الفعل الوطني ضد الثقافة الأجنبية متواصلاً هو الآخر، تمثل أول مرة، كرد فعل رافض، في ذلك الاتجاه التقليدي الذي يمجد الماضي ويقدسه، ويرى فيه، أو في إحدى فتراته، الصورة النموذجية التي يجب أن تتجسد في الحاضر والمستقبل، وتلك رؤية هاربة إلى الوراء لعجزها عن مواجهة الحاضر والمستقبل ومشاكلهما. إنها رؤية صادرة عن وعي مزيف مسلوب، وعي يجسم ظاهرة "الاغتراب في الماضي" بكل ما في هذه الظاهرة من آفاق سلبية وأبعاد رجعية. وإلى جانب هذا التيار التقليدي المنغلق أفرزت المدارس الوطنية الخاصة، مدارس التعليم الوطني الحر التي كانت ترعاها الحركة الوطنية تياراً ثقافياً وطنياً تحديثياً ينظر إلى الثقافة الوطنية على أنها لا تعني الاغتراب في الماضي، مهما كان هذا الماضي مجيداً وضاءً. إن إحياء التراث القومي، لا يخلق الثقافة الوطنية، وإنما يحيي ثقافة كانت موجودة، وطنية كانت أو غير وطنية. إنه تراث ثمين ولاشك، ولكنه وحده لا يشكل الثقافة الوطنية الحق، ثقافة الواقع الحاضر والمستقبل المأمول. إن الثقافة الوطنية يجب أن تهتم بالماضي حقاً، ولكن لا من أجل أن تجعل منه الحقيقة المطلقة، الحقيقة النهائية الخالدة، بل من أجل أن نربط بين ما هو صادق فيه وأصيل، وبين معاناتنا وتجاربنا الحاضرة. إن إحياء الماضي الذي طمسه الاستعمار أو شوهه، وإن تصحيح معرفتنا بماضينا وتراثنا القومي ضرورة من ضرورات الثقافة الوطنية. ولكن "إحياء الحاضر"، أي التعبير عن معاناتنا في تجاربنا الراهنة، عن حركة واقعنا وتموجاته، عن وحدة شعبنا في تطلعاته، هو وحده الذي يخلق الثقافة الوطنية الحق، الثقافة التي تساهم في إغناء النضال الشعبي وتوضيح طريقه وآفاقه.