ينتهي العام 2007 وتنتهي الجولة الأخيرة من محاولات انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان بالفشل. يبقى لبنان بلا رئيس. علماً بأن توافقاً تم حول انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً. بقي التوافق نظرياً لأن المعارضة التي كانت أطلقت الدعوة إلى التوافق في نهاية أغسطس الماضي وعلى لسان رئيس المجلس النيابي نبيه بري في مدينة بعلبك، وأكدت فيها أن المطلوب اتفاق على شخص الرئيس فقط. فالشخص أهم من البرنامج، هذه المعارضة نفسها، وبعد أن درست الأكثرية النيابية والسياسية والشعبية المبادرة، وقررت التعاطي معها إيجاباً وذهبت إلى أبعد الحدود بمواقفها على تعديل الدستور وانتخاب العماد سليمان الذي أيدته المعارضة في مرحلة معينة، هذه المعارضة وعندما تم الاتفاق على الشخص بدأت بطرح سلسلة من المبادرات والأفكار والشروط السياسية المختلفة التي تجاوزت حدود الشخص لتدخل إلى برنامج المرحلة المقبلة ومن زاوية تقييد حركة الشخص التوافقي. في النهاية لبنان اليوم بلا رئيس. وهذا أمر خطير جداً. وسابقة في تاريخ البلاد. وفي معزل عن المنطق الدستوري، الذي يعطي الحكومة حق ممارسة صلاحيات الرئيس وكالة، فإن الأمر غير طبيعي على مستوى عمل المؤسسات وغير مقبول على المستوى الوطني العام نظراً لما له من تأثير على التوازن في البلد. والتوازن هو أساس الحكم في لبنان. كل التجارب أدت إلى هذه النتيجة. أي خلل في التوازن داخل طائفة كان مشكلة، وأي خلل بين الطوائف كان مشكلة أكبر وخصوصاً على مستوى الطوائف الكبرى، وأي استئثار وتفرد كان مشكلة، وأية ثنائية في الحكم كانت مشكلة أكبر. لأن لبنان بلد تنوع، فالميزان فيه حساس. هنا أهمية القائد السياسي العاقل والحكيم الذي يدرك أهمية ودقة قراءة المعادلة السياسية اللبنانية ويعرف كيفية التعامل معها. ليست المسألة في لبنان مسألة قوة أو سلاح أو عدد أو مال، هذه عوامل مؤثرة في الحياة السياسية أينما كانت وخصوصاً في لبنان. كلها مجتمعة لا تشكل العناصر الحاسمة والمقررة نهائياً، لأن ثمة توازنات لابد من أخذها بعين الاعتبار. قد يرى البعض هذا الواقع مؤلماً أو يحمل سمات تخلفّ في النظام السياسي اللبناني ويحد من طموحات أجيال لبنانية صاعدة. هذا صحيح, وقد خاض كمال جنبلاط تجربة فريدة في الحياة السياسية اللبنانية لإرساء قواعد نظام ديمقراطي حقيقي دون المساس بمسلّمات الكيان اللبناني وإسقاط الخصوصيات، فقُتل وقُتل حلمه وحلم عدد كبير من اللبنانيين معه. وبتنا اليوم أكثر حاجة إلى تسوية تحمي اتفاق الطائف وتكرس التوازنات. وهذه العملية ليس بالضرورة أن تكرس في نصوص. الممارسة السياسية مهمة جداً. وموقع المسؤول -أي مسؤول- مهم، لكن موقفه هو الأهم. فالموقف هو الذي يحمي الموقع ويصونه، ويحفظ كرامته ويعلّي شأنه ومن خلاله يحفظ كرامة من يُمثله. للأسف وصلنا إلى مرحلة في لبنان إذا أردت فيه أن تحاسب موظفاً ارتكب خطأ قامت قيامة رموز الطائفة التي ينتمي إليها واستنفرت المشاعر، لأن المسألة تطرح من زاوية كرامة الطائفة وليس من زاوية القانون وضرورة محاسبة مرتكب الخطأ. وتصبح وكأن كرامة الطائفة بكل قيمها الروحية والإنسانية والأخلاقية وتاريخها وحضورها مرتبطة بهذا الموظف! إنها العصبيات... إنها الأحقاد، وهذا أمر خطير. اليوم ازدادت هذه النعرة أكثر، لاسيما في ظل الانقسام الحاد في البلاد. وفي هذا المناخ تصر المعارضة على بت عدد من الأمور قبل انتخاب رئيس للجمهورية علماً كما ذكرنا، هي كانت ترفض ذلك وتصر على الاتفاق على شخص الرئيس. ومن ضمن الأمور التي تريدها حكومة وحدة وطنية تقوم على أساس أن يكون ثلثها بيد المعارضة، وهي تسميه أحياناً الثلث الضامن أو الثلث المعطل. والأكثرية ترفض ذلك، فهو أمر لا ينص عليه الدستور من جهة، ولا يمكن أن يشكل توازناً من جهة أخرى، فهو يحرم الأكثرية من حقها في ممارسة دورها ديمقراطياً ويجعل القرار النهائي فعلياً في يد المعارضة، وهذا أمر غير طبيعي. ولأن المصطلحات التي تطرح في لبنان كثيرة جداً هذه الأيام، فينبغي علينا أن ندقق فيها، وأن ندرسها ونحللها ونشرّحها، وعلى ضوء ذلك نطرح مدى ملاءمتها للواقع القائم في البلاد. فإذا اعتبرنا أن الثلث المطلوب هو ثلث ضامن، فالسؤال: ضامن لمن؟ أضامن للمعارضة؟ وماذا عن ضمانات الآخرين؟ وما معنى التوافق إذاً؟ وما هي قيمة التوافق السياسي على برنامج سيكون البيان الوزاري أي الأساس السياسي للمرحلة الجديدة بين الطرفين المختلفين؟ من يبدد هواجس الأكثرية إذاً من أقلية تتحكم بثلث يضمن لها كل مصالحها وحساباتها وقراراتها وتوجهاتها. فإلى أين تذهب الأكثرية؟ وهل ثمة نظام سياسي في العالم يشابه هذه المحاولة لتركيب النظام في لبنان؟ وإذا اعتبرنا أن الثلث هو ثلث معطل، فهو سيعطل ماذا؟ وفي وجه من؟ ولمصلحة من؟ وهل بات التعطيل مطلباً وعنواناً وشعاراً؟ ومنذ متى وفي أي تجربة سياسية يكون التعطيل هكذا؟ وماذا لو تغيرت الأمور والمعادلات وأصبحت الأكثرية أقلية والأقلية أكثرية، فهل تلجأ الأقلية المقبلة إلى المطالبة بالثلث المعطل تحت عنوان حصولها على ضمانات، فتتميز سنوات حياتنا السياسي بالتعطيل والتعطيل المضاد؟ وبالتالي تعيش البلاد حالة التجاذب والانقسام والتعطيل المفتوح؟ فكيف تستقر؟ وكيف تنتج؟ وكيف تحقق نمواً؟ وكيف يضمن مستقبل لكل أبنائنا؟ في العادة تشكيل الحكومات في لبنان صعب. في النظام القديم أي قبل الطائف ومع الطائف. حتى خلال الوجود السوري كانت العملية صعبة رغم أن القرار النهائي كان لسوريا. التوازنات في لبنان صعبة وأطر ممارستها والتعبير عنها دقيقة وكذلك عملية رسمها. فكيف اليوم مع هذه الأزمة الكبيرة بين اللبنانيين المنقسمين انقساماً حاداً إلى فريقين، الثقة مفقودة بين اللبنانيين إلى حدود خطيرة وجسور التواصل مهدمة. حتى ولو عبر البعض من هذه الضفة إلى تلك عبر مسالك فرعية مختلفة غالباً تكون وعرة ومحفوفة بالألغام والمخاطر! لكننا، أمام فرصة في الوقت ذاته. نحن اتفقنا على رئيس مبدئياً. وقلنا عنه مرشح توافق بما يعني أننا نثق به ونعتبره ضمانة، وهو صاحب تجربة على الأرض من خلال قيادة الجيش. وبالتالي، لا يجوز الإصرار على ثلث معطل أو ثلث ضامن لا من هنا ولا من هناك، لأنني في الأساس ومنذ أن رفع هذا الشعار كنت أعتبره الثلث المقرر فعلياً. التسمية الفعلية لهذا الثلث هي كذلك. الثلث المقرر. فمن يملك هذا الثلث يمتلك قرار الحكومة. يستطيع الإطاحة بالحكومة إذا استقال. ويستطيع فرض أي قرار من خلال عملية رفض أي قرار من القرارات السياسية التي تحتاج أكثرية الثلثين في مجلس الوزراء. واللافت في هذا الأمر هو أن الذين يصرون على هذا الأمر، يريدون منع الأكثرية من امتلاك الثلثين حتى في مجلس الوزراء، ولو وافقت على ذلك فهم رفضوا الصيغ التي تحرم الأكثرية من الثلثين ولا يعطيهم هذا الثلث المقرر وتكون الحصة الضامنة للتوازن عند رئيس الجمهورية! وهذا هو الحل الأكثر ملاءمة لهذه المرحلة إذا كانت النيات صافية والرغبة صادقة في انتخاب العماد سليمان وإنقاذ البلاد. هكذا نكون قد أعدنا الاعتبار إلى موقع الرئيس ودوره وصلاحياته وحضوره في مركز القرار الأول ليلعب دور الحكم بين الأطراف المختلفة ويعمل على إعادة بناء الثقة فيها. إن أي تجاوز للتوازنات، وأي إصرار على منطق التحدي والمكابرة والانتقام لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام، وهذا خطر على الجميع ولا يؤدي إلى ملء الفراغ في المؤسسات، بل إلى عكس ذلك، أي إلى تفريغ المؤسسات من دورها وحضورها وفاعليتها وإدخال البلاد في المجهول. آمل أن نتعلم جميعاً من تجربة عام 2007 المرة الصعبة، وأن نعبر إلى بدايات العام 2008 بحل يكون بداية خروج من هذه الأزمة. هكذا نكون قد قررنا حماية مصلحة البلد وأهله، وضمنـّا أمنه واستقراره وعطلنا كل محاولات التخريب والاستهداف... هذا هو الإجماع المقرر والضامن والمعطل. وهذا يتحقق من خلال اتفاق ليس على الحصص هنا وهناك، بل اتفاق سياسي شامل يعالج جذور الأزمة ويعيد زرع الثقة بين اللبنانيين.