هناك مخاوف حقيقية من أن تتشظَّى باكستان ثاني أكبر دولة مسلمة بتعداد سكاني يتجاوز 165 مليون نسمة، وبسلاح نووي بعشرات الرؤوس النووية، أمام أنظار العالم، وتتحول بذلك إلى "دولة فاشلة" أخرى، بعد أن أصبح لقب "الدولة الفاشلة" يطلق على عدة دول إقليمية مثل الصومال والعراق والسلطة الفلسطينية. لكن عندما تكون الدولة نووية، ومركبة، وهائلة المساحة، وبعدد سكان يصل إلى نصف عدد سكان العالم العربي، فإن هذا يجب أن يثير الكثير من القلق والخوف من باكستان وعليها، بحكم تداعيات اغتيال زعيمة "حزب الشعب الباكستاني" المعارضة بينظير بوتو على تماسك الدولة، وأثر ذلك على أفغانستان و"طالبان" و"القاعدة" والحرب على الإرهاب. وفي هذا السياق لا يخلو من دلالة التحذير الذي أطلقه برنار كوشنر، وزير الخارجية الفرنسي، من أن أزمة باكستان تهدد "توازن المنطقة". ثم ماذا عن مستقبل "حزب الشعب" نفسه؟ وهل سيشارك في الانتخابات القادمة المرجح تأجيلها، أم سيقاطعها مثلما قرر حزب نواز شريف الذي يطالب باستقالة مشرف؟ بينظير بوتو الأرستقراطية "ابنة الشرق"، كما تصف نفسها في مذكراتها، تنتمي إلى عائلة اغتيل وشنق وقتل أفرادها. والدها ذو الفقار علي بوتو مؤسس "حزب الشعب" يصفها بأنها "بلا نظير". ومعروف أن رئيس الوزراء الأسبق الذي شنق على يد الجنرال ضياء الحق عام 1979، حفز ابنته على التمرُّس في العمل السياسي مبكراً، فدرست العلوم السياسية وتخرجت من جامعتي هارفرد وأوكسفورد، وأصبحت في الخامسة والثلاثين من عمرها أول امرأة ترأس دولة مسلمة، وأصغر رئيسة وزراء في تاريخ العالم الإسلامي. لقد أمضت بينظير بوتو حياتها بين الحكم والسجن والمنفى. وقد راهنت عليها واشنطن بقوة وشجعتها على العودة إلى باكستان، لأنها تمثل الإسلام الليبرالي المعتدل والحليف القوي للغرب. وقد أصرت بينظير بقوة وجرأة على أن الحرب على الإرهاب في باكستان ليست حرباً أميركية، بل هي حرب باكستانية ضد قوى الإرهاب والأصولية والتطرف. فهل أدى ذلك لاغتيالها؟ لقد عادت بوتو إلى باكستان مختلفة، باكستان نووية يتفرد مشرف بحكمها وتخوض حرباً على الإرهاب، وتتحالف مع واشنطن وبدور إقليمي متنامٍ. وأخذاً بهذه المعطيات في الاعتبار فقد شكل مقتل بوتو صدمة كبيرة في الداخل، وانتكاسة مدوية للاستراتيجية والترتيبات الأميركية التي تسعى لتحالف قوي مع باكستان يعتمد على مزيج من ثلاثة عناصر: الرئيس مشرف الذي فقد الكثير من أوراق قوته بعد ثمانية أعوام من انقلابه على نواز شريف، وبوتو زعيمة المعارضة، وقائد الجيش الجديد الجنرال أشفق كياني، لتشكيل جبهة متراصَّة في وجه التطرف والأصولية الإسلامية، وتقديم صورة للإسلام المعتدل الذي تسعى واشنطن لجعله نموذجاً في الشرق الأوسط الكبير. وهذا بحد ذاته يشكل انتكاسة كبيرة ليس لمخطط واشنطن في باكستان، ولكن في المنطقة بأسرها. وكما تقول افتتاحية "نيويورك تايمز": لقد أدى اغتيال بوتو إلى إخفاق هدفين لإدارة الرئيس بوش،السعي لنشر الديمقراطية في العالم الإسلامي، وسعي الإدارة لاحتواء الإسلاميين في باكستان. وبالنظر إلى جسامة الحدث فإن ردود الفعل والمواقف القوية على اغتيال بوتو كانت متوقعة من الرئيس بوش وبوتين و"بان كي مون"، وأيضاً من الهند وفرنسا والدول العربية. وتتجه أنظار العديد من العواصم الآن إلى الخطر الأكبر، وهو سلامة الترسانة النووية، حيث تبدي أميركا وإسرائيل (التي كانت تتطلع بوتو لإقامة علاقات معها) قلقاً كبيراً من خطر سيطرة المتطرفين على السلاح النووي، وإن كانت "البنتاغون" تؤكد على سلامته. ونصل إلى سؤال: مَن وراء الاغتيال؟ هل "القاعدة" وراءه؟ وزارة الداخلية الباكستانية تتهم "القاعدة". وإذا صح ذلك فإن "القاعدة" تكون قد حققت ضربة مؤلمة ضد باكستان وواشنطن معاً. ولكن "القاعدة" و"طالبان" نفتا أي دور لهما في الاغتيال. وكانت بوتو اتهمت قبل مقتلها قوى داخلية عديدة بمحاولة اغتيالها. وهناك مخاوف الآن من الارتداد على الديمقراطية وتسلم الجيش مزيداً من الصلاحيات باسم ضرورة فرض الأمن والاستقرار، فيما تبدو واشنطن متخبِّطة لاهثة وراء استراتيجية تحافظ بها على مكاسبها مع حليف بالغ الأهمية كإسلام أباد. وفي المجمل فقد دخلت باكستان في نفق حرج قد يدفع لأول مرة بدولة نووية إلى حافة الهاوية. ولكن باكستان اعتادت الملمات لأنها في إقليم دائم الاضطراب. قلوبنا ودعواتنا أن تنجح باكستان مرة أخرى في اجتياز هذا التحدي الأخطر، لمصلحتها ولاستقرارها ولأمن واستقرار جوارها القريب والبعيد، وهو ما يشملنا في الخليج الذي يكفيه ما فيه من اضطرابات.. وبؤر توتر.