ينعقد اليوم (تاريخ نشر هذا المقال) الاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب بمقر الجامعة العربية بالقاهرة، لمناقشة الأوضاع المتردّية بلبنان والناجمة عن تعذر انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية بعد انتهاء فترة الرئيس السابق أميل لحود. دعت الأمانةُ العامةُ للجامعة لهذا الاجتماع بناءً على طلب المملكة العربية السعودية ومصر. وأُضيف على جدول أعمال الاجتماع موضوع فلسطين ليس لزيادة القتل الإسرائيلي في صفوف الفلسطينيين في الآونة الأخيرة وحسب؛ بل ولأنّ القتلى بين "حماس" و"فتح" في غزة تزايدت أعدادُهُم في الآونة الأخيرة أيضاً! بين الثاني عشر من شهر نوفمبر والثاني عشر من شهر يناير الحالي يكون رئيس مجلس النواب اللبناني قد حدَّد اثني عشر موعداً لاجتماع المجلس من أجل انتخاب الرئيس، لينتهي الأمر في الإحدى عشرة مرةً حتى الآن بأنّ المجلس لم يتمكن من الانعقاد وانتخاب الرئيس. وعِلّةُ ذلك عدم قبول نواب "حزب الله" و"أمل" وعون وحلفائه بالدخول إلى قاعة المجلس لإكمال نصاب الثلثين، (86 نائباً من أصل 128) وهو الشرط الضروري دستورياً للانعقاد والانتخاب. وكان الرئيس نبيه بري قد أَقفل مجلس النواب من قبل قُرابة عام، بعد انسحاب الوزراء الشيعة من مجلس الوزراء، باعتبار الحكومة بتراء وغير دستورية وغير ميثاقية، وهو بالتالي لا يقبلُ طلباتِها. لكنه مع حلول الموعد الدستوري لانتخاب الرئيس الجديد، ما استطاع الاستمرار في إقفال المجلس، لأنه بحسب الدستور فإنّ النواب يستطيعون الاجتماع لانتخاب الرئيس بدون دعوةٍ من رئيس المجلس في الأيام العشرة الأخيرة من ولاية الرئيس المنتهية ولايته. ولذا فعلى مشارف تلك الفترة خطب ببعلبكّ ودعا للتوافُق على الرئيس، وانصرفت الأكثرية (التي تستطيع جمع 70 نائباً ليسوا كافين لانتخاب الرئيس الذي يحتاج للثلثين كما سبق القول) بشخص زعيمها سعد الحريري للتفاوُض مع بري تَوَافُقاً على رئيس التوافُق(!). وجرى التداوُل في عدة أسماء. ولمّا بدا أنّ الرجلين لن يتفقا، ألحَّ رؤساء الكُتَل (والفرنسيون الذين كانوا قد بدأوا وساطتَهم مع سوريا وفي لبنان) -وباستثناء الجنرال عون- على البطرك الماروني صفير أن يضع قائمةً بمرشحين لهم الأَولويّة، ويتوافق الحريري وبري على اسمٍ أو أكثر يُحيلونه إلى مجلس النواب. بيد أنّ هذه الآلية لم تُفْلح أيضاً؛ إذ إنه ظلَّ لكلٍ من الرجلَين مرشَّحُه، ورفض الرئيس بري تحويل القائمة كلّها الى مجلس النواب. وبدا لعدة أسابيع أنّ المبادرة الفرنسية تملكُ حظوظاً أفضل. فهي ما بدأت من لبنان بل من طهران وسوريا، ثم اقتصرت على سوريا، ثم انقسمت إلى نصفَين: وزير الخارجية الفرنسي (وانضم إليه وزراء خارجية أوروبيون) يتجول بين الأطراف اللبنانية، ومساعدا الرئيس الفرنسي يأتيان ويذهبان إلى سوريا. لكنْ خلال فترة لائحة البطرك، والوساطة الفرنسية مرت عدةُ مواعيد لانعقاد مجلس النواب، والرئيس نبيه بري يؤجِّلُ الجلسات يومَ الانعقاد، بحجة أنّ التفاوُض بينه وبين سعد الحريري مستمر، كما أنّ الوساطة الفرنسية من أجل التوافُق مستمرة. وخلال تلك الفترة أيضاً أو في أوائلها جرى اغتيال نائبٍ من الأكثرية هو أنطوان غانم، ثم في أواخرها، أي قبل ثلاثة أسابيع جرى اغتيال الجنرال فرانسوا الحاج مدير العمليات في الجيش اللبناني! وإذا كان اغتيالُ النائب غانم يدخل في التكتيك المستمرّ منذ قُرابة السنتين للتقليل من عدد نواب الأكثرية (نعم، أليس ذلك مأساوياً؟)؛ فإنّ اغتيال الجنرال الحاجّ جاء بعد حصول تطور دراماتيكي بادرت الأكثرية النيابيةُ إلى إطلاقه. فقد أعلنت الأكثرية فجأةً يوم 27/11/2007 عن ترشيح الجنرال ميشال سليمان قائد الجيش الحالي للرئاسة. وهي بذلك تكونُ قد قدَّمت عدة تنازُلات: سارت خطوةً باتجاه سوريا لأنها هي التي عينت الرجل في قيادة الجيش أيام وصايتها على لبنان، وهو يملك علاقاتٍ جيدةً بالرئيس بشار الأسد وبقيادة الجيش السوري. وهي استغنت عن خيار انتخاب رئيس من صفوفها بالنصف +1، لأنّ العماد سليمان يحتاج لانتخابه إلى تعديل الدستور في مجلس النواب ويحتاج إلى أكثرية الثلثين بحسب الدستور. وبذلك فهي ربطتْ نفسْها بالتوافُق مع 8 آذار أو الأقلية برابطين: الحاجة إليها في تعديل الدستور، والحاجة إليها في انتخاب الرئيس. والتنازُل الأخير: أنّ قادة 8 آذار و"حزب الله" على الخصوص يثقون بقائد الجيش، ويُثنون عليه على الدوام لصدقه في التعامُل معهم منذ العام 1998؛ وبالتالي يخفُّ خوفُهُم على سلاحهم، ولا يتشكّكون في نوايا الجيش تُجاهَهُم! على أنّ حسابات التوافُق والمُقاربة والاستماتة من الأكثرية لانتخاب رئيس ما حظيت باستحسان سوريا، ولا حظيت حقاً باستحسان رجالات 8 آذار، رغم ترحيبهم الظاهر بها. القيادةُ السورية فوجئت بالترشيح، وبدا أنّ محادثاتها وتكتيكاتها مع الرئيس الفرنسي معرَّضة للانكشاف. إذ ما عادت تستطيع الدخول في الشروط والضمانات التي طلبتْها من فرنسا (وتركيا) والعرب والأكثرية، ما دام شخص الرئيس( الموثوق منها) قد صار متفَقاً عليه! وقد عبَّرت عن انزعاجها من انكشاف اللعبة (لعبة أنها تريد الفراغ، ولا تقبل أيَّ رئيسٍ جديدٍ للبنان) بعدة أساليب: أعلن فاروق الشرع نائب الرئيس السوري عن استمرار التعاوُن مع فرنسا واستبعاد العرب، وقال إنّ 8 آذار تريد ضماناتٍ سابقة على انتخاب الرئيس تتمثلُ في حكومةٍ للوحدة الوطنية لها فيها الثلث +1، وذكر أخيراً أنَّ سوريا أقوى في لبنان الآن منها عندما كان جيشُها فيه والسببُ وجودُ أنصارها الكبار من أمثال بري وكرامي و"حزب الله" ووئام وهّاب وسليمان فرنجية... الخ. وسقط الجنرال الحاج مضرَّجاً بدمائه؛ غَضباً على قائد الجيش، وتحذيراً له من الاقتناع بأنه يمكن أن يكون رئيساً بإرادة اللبنانيين وليس بإرادة سورية! وهكذا صار المطلوب من هؤلاء جميعاً ألا يوافقوا عملياً على إجراء الانتخاب، لأنّ التوافُق على تفاصيل حكومة المستقبل شبه مستحيل الآن. وبالتَّبَع تخلى السيد حسن نصر الله والرئيس نبيه بري فوراً عن تعهدهما السابق بضرورة الاتفاق على شخص الرئيس فقط، وصار المطلوب الاتفاق على"السَّلَّة" أو الملفّ السياسي والإداري كلّه، ومن ضمنه قائد الجيش الجديد، والمناصب الكبرى بالدولة، وبالقانون الانتخابي الجديد! في الشهر الماضي إذن حدثت عدة متغيّرات: بدأ الأوروبيون ثم الفرنسيون ثم الفاتيكان ثم الرئيس بوش، ثم البطرك الماروني، يُظهرون تذمُّرَهُم ثم تمرُّدهم ثم مقاطعتهم لسوريا. ودعا هؤلاء جميعاً لانتخاب رئيسٍ للبنان دونما إبطاءٍ أو شروط. واختفى الأتراكُ بعد أن حاولوا لمدة أسبوعين إقناعَ سوريا بتسهيل عمليات الانتخاب بلبنان. وقال السوريون و"حزب الله" (ثم الرئيس بري) إنّ الجنرال عون (وليس بري) هو المكلَّفُ بالتفاوُض باسم المعارضة. والمعروف أنَّ عوناً لا يقبلُ رئيساً غير نفسِه. واختفت الآمال الضئيلةُ التي لاحت بسبب تواصُل الرئيس الإيراني مع السعوديين في مؤتمر القمة لدول مجلس التعاون، ثم في زيارته للمملكة العربية السعودية من أجل الحجّ. وفي الأيام الأخيرة صرَّح وزير الخارجية السوري وليد المعلم أنّ الفرنسيين هم الذين تراجعوا عن التعهُّدات، وأنّ الأميركيين والسعوديين والمصريين هم الذين أفشلوا المبادرة الفرنسية/ السورية، وعطّلوا الحلّ، بسبب الكلام الذي قاله بوش عن نفاد صبره مع سوريا، وكذلك الفرنسي؛ وأخيراً بسبب الهجمات الصحفية المتبادَلة بين السعودية وسوريا بشأن لبنان، وغيره! وما غابت الجامعةُ العربيةُ عن المشهد اللبناني خلال الشهرين الماضيين. فقد جاء الأمين العام للجامعة إلى بيروت. ثم أرسل مُساعِدَهُ هشام يوسف. واستمر الدكتور عمرو موسى في التواصُل مع سائر الأطراف وبخاصةٍ الرئيس بري والرئيس السنيورة. لكنّ الذي لوحظَ انكفاءُ كلٍ من السعودية ومصر، وقِلّة حركة سفيريهما في بيروت. وقبل ثلاثة أسابيع حضر السعوديون والمصريون "اجتماع الشأن اللبناني" في باريس على هامش مؤتمر دعم الفلسطينيين. وقد صدر يومَها بيانٌ هادئٌ وحازمٌ عن حقِّ اللبنانيين في انتخاب رئيسٍ جديدٍ لجمهوريتهم دونما تدخُّل. وقد عبَّر بعض الحاضرين (وبينهم وزير الخارجية الفرنسي) عن نفاد صبرهم من التصرفات السورية السلبية. ويبدو أنّ العرب الكبار فكّروا وَقْتَها بعقد اجتماعٍ للجامعة العربية من أجل لبنان. وهكذا كان. لكنه بدلاً من أن يأتي الطلبُ من الحكومة اللبنانية، أتى من جانب السعودية ومصر. ولكنْ ماذا يفيد الاجتماعُ والبيان المنتظر؟ إنه كلامٌ صريحٌ لسوريا وللأطراف اللبنانية: هذه الفرصة الأخيرة الباقية لانتخاب رئيسٍ بدون تدخُّلٍ ولا شروط. وبعدها فإنَّ العربَ لن ينكفئوا بل سيتخذون سلوكاتٍ معينة تُجاه المُعرْقلين. وكما يتابعُ الجمهور العربي الاجتماعَ الاستثنائي، يُتابعُهُ أيضاً الأوروبيون والمجتمع الدولي، ولتحرك أولئك آلياتٌ أُخرى!