لا تزال التصريحات متضاربة حول من اغتال السيدة "بينظير بوتو" وفجّر موكبها، ولكن ما هو متوقع، أن تبقى البيئة الباكستانية ربما لسنوات طويلة قادمة، كما كان شأنها منذ عقود، وسطاً زاخراً بالعنف والتطرف والتمزق السياسي، ولن تكون هذه الزعيمة الشعبية المحبوبة آخر ضحاياها. قال محللون إن اغتيال"بينظير بوتو" يعيد الولايات المتحدة إلى نقطة البداية في سعيها لإيجاد "باكستان مستقرة وديمقراطية تكون شريكتها في حربها ضد المتشددين الإسلاميين"، وقال آخرون إن مقتلها، رغم أنه كان متوقعاً، إلا أنه لا يزال بمثابة "صفعة لفكرة دولة باكستانية حرة ومعتدلة". إنْ كانت "القاعدة" هي التي قتلتها، فهذا تأكيد جديد على أن الغدر عنصر ثابت في الحياة السياسية الباكستانية، فمن الثابت، تقول صحيفة "الشرق الأوسط" إنه في عهدها "قويت شوكة طالبان في أفغانستان المجاورة بدعم مالي ولوجستي مباشر من حكومتها، وعندما تولت الحركة الأصولية الحكم في كابل، كانت باكستان إحدى ثلاث دول فقط اعترفت بها. وظلت الحكومات التي تعاقبت على باكستان من بعدها تدعم "طالبان" حتى هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة". المحللون يشيرون أيضاً إلى العنف كمكوِّن أصلي وأساسي في تكوين باكستان، انفصال عنيف عن الهند رافقته مذابح مروعة بين المسلمين والهندوس، انفصال عنيف لبنجلادش عن باكستان عام 1971، تلته مذابح وتصفيات، توتر دائم وحروب مع دولة الهند المجاورة لها، عنف وتصفيات وإعدامات لا حصر لها في الصراعات والانتخابات السياسية، عنف طائفي واحتكام متعاقب متبادل إلى الرشاشات والمتفجرات ونسف المساجد والمصلين بين الشيعة والسنة. المؤسسة الدينية الباكستانية منذ البداية وحتى اليوم، لم تكن بمفكريها ومساجدها ووعاظها وأحزابها، هيئة لترسيخ الرحمة والاعتدال والوسطية، وزرع التآخي والتعددية واحترام الآخر، بل نقلت معها في جوفها وعلى لسانها، بعد الانفصال عن الهند، الكثير من الأحقاد والتعصبات، زادها مفكرو "الإسلام السياسي" تطرفاً وتشدداً. وسرعان ما تم تصدير الكثير من منتجات فلسفة التكفير إلى العالم العربي، حيث صرنا اليوم، مع الباكستانيين، نتصدر قوائم التشدد والإرهاب. يقال إن الأحزاب المتطرفة في باكستان، لا يتجاوز وزنها الانتخابي 11%، في ظل الديمقراطية! ولكن هذه النسبة تتضاعف في ظل دولة كان أساس قيامها الاختلاف الديني عن غالبية سكان الهند، وتحت كل مؤثرات وعناصر ومخصّبات العنف الأخرى التي يعاني منها رجال ونساء باكستان! فلا غرابة إذن أن مجلة "نيوزويك" الأميركية ذكرت في أكتوبر 2007 ضمن تحقيق لها، كعنوان غلاف: "إن الأمة الأخطر في العالم ليست العراق... إنها باكستان". ازدهر التطرف الديني مع وصول الجنرال ضياء الحق إلى السلطة وبداية تطبيقه للإسلام وانتشار المدارس الدينية المجانية التي كان يتم تمويلها خليجياً على الأرجح والأغلب، وكانت "المدرسة" الدينية الباكستانية، كما يصفها غسان الإمام، قطيعة تامة مع العصر:"التعليم والثياب والمأوى بالمجان، لكن لا موسيقى، لا رياضة، لا بنات، لا صور، لا علوم اجتماعية واقتصادية، حتى الطب يتوقف تدريسه عند الطب العربي القديم. الدراسة تتمحور حول تحفيظ القرآن بلا شرح وتفسير، وتدريس الاجتهاد الحربي في العصور الوسيطة، من دون مراجعة أو نقد. كل ذلك في غياب شبه تام للمدرسة الحكومية". آلاف "المجاهدين" المتزمتين ورجال الدين والدعاة تخرجوا من مثل هذه المدارس وما هو أسوأ منها، كما تأصلت أيديولوجية ضياء الحق في المؤسستين العسكرية والمخابراتية، وحاول جميع ساسة باكستان تلوين أنفسهم وأحزابهم بدرجة ما من الصبغة الإسلامية، وهو ما يحاول أن يفعله كذلك بعض المثقفين العرب اليوم. بعد إسهامات علمانية ليبرالية طويلة عريضة! وفي مقال ساخر بعنوان "من قتل كارهة الاستبداد"؟ كتب علي سالم في "الشرق الأوسط" 1/1/2008 معلقاً على قوى الأمن الباكستانية: "في قضية اغتيال السيدة بينظير بوتو يكاد الأمن الباكستاني أن يقول خذوني مرتين، الأولى عندما أصدر بياناً يقول فيه إن سبب وفاة الضحية هو اصطدام رأسها بسقف السيارة، الثانية عندما أعلن أن طالبان هي الفاعل بدليل المكالمة التليفونية التي التقطها الأمن". ثم يقول:"التنظيمات الثورية جميعها تلجأ للشفرة في اتصالاتها التي تتم عادة في أضيق الحدود وعند الضرورة القصوى، ويكون الهدف منها هو الإفادة بإتمام العملية، أما في حالة تفجير بهذا الحجم، حدث أمام أجهزة الإعلام في العالم كله، بالإضافة إلى إعلان وفاة السيدة بوتو كما قالت كل وكالات الأنباء، فمن غير المحتمل أن يتصل شخص ما بشخص آخر ليقول له: مبروك العملية نجحت"! لقد تعرضت "بينظير" إلى محاولة اغتيال فاشلة في أول أيام وصولها إلى باكستان، وأشارت إلى إطفاء الأنوار في الشارع وغياب الحماية والأمن، كما أن الرئيس "مشرّف" لم يكن شديد الترحاب بوصولها إلى البلاد، لا هو ولا الجيش أو أجهزة الأمن على الأرجح. أزمة "مشرّف" بدأت في مارس 2007، عندما قام مرتدياً بزته العسكرية ومحاطاً بقادة الأجهزة الأمنية، بطرد رئيس المحكمة العليا الباكستانية، "افتخار محمد شودري"، بتهمة سوء التصرف. أما السبب الحقيقي، يقول المتابعون، فكان التحدي الذي فرضه هذا القاضي أمام استئثار الجيش بسلطة الدولة بوسائل غير شرعية، إذ كان قد حكم بعدم شرعية سياسة الخصخصة التي باعت ممتلكات الدولة بأدنى الأسعار إلى ضباط في الجيش وأتباعهم بين نخبة رجال الأعمال الباكستانيين. ولا ينبغي الاقتصار في الانتقاد على الجيش وقوى الأمن وحدهما، ولابد كذلك من الالتفات إلى تطرف وفساد القوى الدينية والسياسية، بما في ذلك البناء الداخلي للأحزاب الكبرى التي يفترض فيها أن تقود الحياة الديمقراطية وتحرسها. فمما يلفت النظر بل الاستغراب الشديد، أن يتولى ابن السيدة "بينظير" اليافع، وزوجها، زعامة حزب "الشعب"، بعد أن قدمت حياتها فداء للديمقراطية النزيهة في بلادها! وبدلاً من استقطاب هذا التعاطف الشعبي الكبير، والذي تجاوز أعضاء وأنصار الحزب إلى عامة الشعب، واستثماره لدعم المد الديمقراطي والحياة السياسية الشفافة، تراجع حزب "الشعب" للأسف إلى نفس الكهوف الإقطاعية والعائلية والطائفية، التي قدمت "بينظير" حياتها بشجاعة لوضع حد لها! لقد بدأت باكستان حياتها السياسية عام 1951 باغتيال أول رئيس وزراء للبلاد، السيد "لياقت علي خان"، في نفس المكان الذي اغتيلت فيه "بينظير" عام 2007، بل وكان اغتيال "لياقت علي خان" كذلك، إنْ صدق اتهام "القاعدة" باغتياله، علي يد إسلامي متطرف...آنذاك! ولكن العالم الإسلامي لم يكن قد جرب على نطاق واسع العمليات الانتحارية التي لا تزال تضرب مدن هذه البلدان كل يوم بلا رحمة. الكاتب حمد الماجد، تساءل في الشرق الأوسط: "شيء ما يحيّر في دولة شبه القارة الهندية، الهند وباكستان وبنجلادش وسري لانكا، مجتمعاتهم محافظة خاصة حول المرأة وأوضاعها ولباسها لدرجة أن "الزواج المرتب"، أي اختيار الأهل للزوج بغير إرادة المرأة لا يزال شائعاً، وفي الوقت ذاته يمنحون المرأة كامل الإرادة السياسية وبحماسة لافتة. والشأن المذهبي والعقيدي له حضوره الشديد في باكستان، وفي ذات الوقت لا يأبهون لمذهب زعاماتهم السياسية كما هو الحال مع "بينظير"، فهي شيعية والمتحمسون لها غالبية سُنية. أرأيتم كيف أن حياة "بينظير" وتجربتها ليس لهما نظير"؟ ستبقى حياة ووفاة السيدة "بينظير بوتو" مادة ثرية للكتابة والتحليل السياسي والاجتماعي لفترة قد تطول، وستخضع تجربتها السياسية بسلبياتها وإيجابياتها للجدل بين الكتاب والمؤرخين. ولكن ما من أحد تابع عبر أجهزة الإعلام عودتها إلى باكستان، حيث لاقت مصرعها بأبشع الطرق، إلا وعاش صدمة حقيقية، وتأثر أبلغ التأثير، وأعجب أشد الإعجاب بشجاعة هذه المرأة الاستثنائية. فقد تجاهلت التهديدات، وخاضت غمار المجهول، وعرضت نفسها لكل المخاطر للوصول إلى الناس، وهاجمت بشجاعة قوى التزمت والإرهاب، وغامرت بالثقة في حماية النظام لها، ومشت في طريقها بكل ثقة، وكأن كل هذه الوحوش والأشباح المرعبة من حولها لا وجود لها ولا تستطيع أن تمس شعرة منها! لقد كانت السيدة "بوتو" للمسلم المعاصر، يقول أحد المعقبين في الإنترنت "كالنسمة المنعشة في يوم صيف قائظ. وقد كنا نستشهد بها على من يتهمون المسلمين باضطهاد المرأة. وكان وجهها السمح بملابسها الإسلامية المحافظة، مفارقة صارخة مع الوجوه الكالحة التي تريد إدخالنا الجنة بالقتل والضرب والجلد. إنه حقاً يوم كئيب". ستبقى "بينظير بوتو" إذن، مهما قيل في تجربتها السياسية ورغم كل الانتقادات، رمزاً بطولياً للديمقراطية في العالم الإسلامي والمشرق وعموم العالم الثالث، أسطورة امرأة بالغة الطموح والشجاعة. عزّ لها نظير امرأة اخترقت عوالم الذكورة والأنوثة الشرقية على حد سواء!