هناك الآن رأي سائد بين العلماء الاجتماعيين، بأنه لا يمكن استشراف المستقبل لفترة تتجاوز ربع قرن من الزمان. ومن هنا نشأ مفهوم جديد في أدبيات التنمية يعرف باسم "الرؤية الاستراتيجية"، وتعني السياسات الممكنة لمجتمع ما خلال عشرين عاماً قادمة. وبالتالي فلم يعد في الإمكان أن نتحدث عن مشاريع حضارية، لأن "المشروع الحضاري" -بحسب التعريف- ينبغي أن يغطي فترة نصف قرن على الأقل. لذلك فقد ظهرت بعض الحركات الفكرية التي تنادي بأن هذه المشاريع الكبرى لم يعد لها وجود الآن، وهي ليست ذات طابع عملي، لأن أقصى ما نستطيع أن نتحدث عنه هو ربع قرن من الزمان فقط، وحتى في هذه الحقبة التاريخية، قد تفاجئنا أحداث كثيرة منها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها. كل هذه الأحداث أو جزء منها، قد تحجب مسارنا وتكذب تنبؤاتنا. ومن هنا فإننا إذا تغلبنا على مشكلة "المجال الزمني" في التنبؤ المستقبلي، فإنه تبقى مشكلة "الوقائع"، حتى يمكن التطبيق ونحن نتحدث عن المستقبل. وحتى لا يكون حديثنا مجرداً سنتخذ من المجتمع المصري نموذجاً، حتى نرصد المشكلات الكبرى التي تواجهه. والواقع أن مناقشتنا ينبغي أن تبدأ بطرح قضية المستقبل والقرن الحادي والعشرين. والسؤال المثار بهذا الصدد: هل معظم الدول ستستقبل القرن القادم بمزيد من الحرية، يساعدها كي تصنع مستقبلها بنفسها؟ الواقع أن حرية صياغة المستقبل أصبحت الآن محفوفة بالمخاطر، بسبب زيادة مساحات التوحيد القسري في العالم أو ما يطلق عليه "العولمة" أي محاولة توحيد العالم اقتصادياً، ليس من خلال الاختيار الحر لكل دولة، لكن عن طريق ضغوط بعض الدول في أن تتبع نظام الاقتصاد الحر. ومن هذا المنطلق أصبحنا الآن في مصر نستمع إلى العديد من الشعارات منها الخصخصة، وتصفية القطاع العام، والسوق الحر وآليات العرض والطلب، وتحقيق التوازن بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، والتنافسية وغيرها. ولم تعد الخصخصة مجرد آلية اقتصادية، بل أصبحت إيديولوجية! ذلك أن أنصارها يزعمون أنه لو فتحت السوق داخلياً وخارجياً، فسيتحقق الرخاء للمواطنين، وتعم السعادة على الجميع. هذه الإيديولوجية أقرب للخرافة، لأنها تصور الإنسانية كلها على أنها ينبغي أن تدين بمذهب اقتصادي واحد، هو الليبرالية الجديدة التي تقوم أساساً على حرية السوق، وذلك بمساعدة آليات أخرى. ومن الظواهر البارزة على المستوى الدولي، والتي ستؤثر على المستقبل المصري والعربي، ما نسميه "بروز حق التدخل" وبخاصة بعد حرب الخليج وغزو العراق، وانفراد الولايات المتحدة الأميركية بالساحة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وكتلة الدول الاشتراكية. إذن نحن في مرحلة تاريخية يسودها ما يسمى بـ"حق التدخل" الذي ليس له تقنين في القانون الدولي حتى الآن. ومن سوء استخدامه أن تدعي دولة مثل أميركا أنه من حقها التدخل لأن هناك نظاماً سياسياً معيناً معادياً لحقوق الإنسان. إن مسألة حقوق الإنسان هي شعار من الشعارات الدولية المرفوعة بازدواجية في المعايير، إذ تستخدمه أميركا حين تريد، وتصمت صمتاً كاملاً بالنسبة لدول أخرى معينة لها مصالح معها. وفي ظل حق التدخل هذا، هل سيسمح لنا وهذه السيادة الكونية للعالم أن نكون أحراراً في صياغة مستقبلنا؟ هل نحن أحرار في أن ننتقل أو لا ننتقل للاقتصاد الحر؟ هناك شعارات مرفوعة عبارة عن ضغوط دولية، وكلها أمور يجب أن نفكر فيها، ونحن نتكلم عن مسألة صياغة المستقبل. فلم تعد للدول النامية ودول العالم الثالث حرية مطلقة لصنع القرار، فهناك ضغوط ومحاولات لفرض نماذج سياسية واقتصادية وثقافية على مختلف شعوب العالم. وقد يكون من المناسب أن نتساءل في البداية، ما هي المشكلات التي ستؤثر تأثيراً بالغاً على صياغة المستقبل المصري؟ هناك عدة مشكلات ينبغي مواجهتها وقد تكون أولاها مشكلة الشمولية الفكرية. والمعنى المحدد للشمولية الفكرية ادعاء أصحاب إيديولوجية معينة أن لديهم الحل الكامل لمشاكل البشرية كلها! هذه المسألة بدأت في أوروبا بعد الثورة الصناعية بشعار "الرأسمالية هي الحل". والرأسمالية تعني حرية السوق من ناحية، وأن المجتمع مكون من أفراد وليس من جماعات أو طبقات من ناحية أخرى. فالفرد هو نقطة التحليل الأساسية، وينبغي أن يطلق سراحه اقتصادياً في السوق الاقتصادي، وأن تطلق إرادته وقدراته في السوق السياسي. بمعنى وجود حرية سوق اقتصادية وحرية سياسية بما في ذلك من تعددية. الفرد هو الأساس، طالما أنه يحاول أن يحقق مصالحه الذاتية، وما دام الفرد قد حقق مصالحه، فسوف تتحقق مصالح المجتمع. ومع مرور الزمن، جاءت الماركسية لتهاجم الرأسمالية وترفع هي الأخرى شعار "الماركسية هي الحل"، وأن المجتمع ليس مكوناً من أفراد بل من جماعات ومن طبقات، وكانت القضية الأساسية هي استغلال طبقات معينة لطبقات أخرى، وأن الطبقة العاملة هي التي تحمل رسالة تحرير المجتمع من قبضة الرأسمالية المتوحشة. إذن جاءت الماركسية لترفع شعاراً مطلقاً جديداً، على عكس ما كانت تدعي "الرأسمالية" أنها ستحقق السعادة للبشرية. ودار الصراع بين الإيديولوجيتين طوال القرن العشرين، حتى حسم في عام 1989 حين انهار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، وظهرت جمهوريات وفلسفات جديدة، حتى أن "فوكوياما" وصف ما حدث بأنه "نهاية التاريخ! وهناك خطورة شديدة من مثل هذه الدعاوى الإيديولوجية التي تدعي أن لديها الحل لكل مشاكل الإنسانية، فهذه الدعاوى ستقضي على التنوع الفكري في المجتمع، ومن ثم في العالم كله. وخطورة ذلك أن التنوع الفكري هو أهم مصادر ازدهار الشخصية الإنسانية. ولا تخفى مخاطر أن تدعي سلطة سياسية ما أن لديها إيديولوجية تمثل الحقيقة المطلقة. لأن احتكار الحقيقة يجعل من يخالف هذه الإيديولوجية مارقاً أو خائناً أو عدواً! إن شيوع وسيادة نظرية تدعي أنها وحدها دون غيرها تحتكر الحقيقة المطلقة، مسألة بالغة الخطورة على نمو الشخصية الإنسانية. هذه المشكلة الأولى التي نعاني منها في الوقت الراهن من جماعات "الإسلام السياسي" التي ترفع شعار "الإسلام هو الحل" وهو شعار غامض، لأنه يخلط بين العقائد الدينية وبين السياسة. العقائد الدينية لا خلاف بشأنها، لكن توظيف النصوص المقدسة لتحقيق غايات سياسية معينة وفق قراءة معينة للنص، يعد مسألة بالغة الخطورة لأنه من الممكن أن تتحول المسألة إلى شمولية سياسية دينية. وبالتالي حين نتحدث عن مستقبل الإنسان المصري في القرن الحادي والعشرين، لابد أن نقول إن عقيدتنا يجب أن تكون إتاحة الفرصة للتعبير الحر وفقاً للدستور والقانون، وإفساح المجال للتنوع الفكري والحوار الديمقراطي بين الأجنحة المختلفة وبين الفصائل المتنوعة. ذلك أنه "حين يدور الحوار تتضح الحقيقة" ليس بشكل مطلق أيضاً، بل بشكل نسبي، فالحقيقة نسبية وليست مطلقة. وهكذا يمكن القول إن الحوار المفتوح يسمح بالوصول إلى تقارب المواقف. إن المسألة الأساسية لمستقبل المجتمع المصري، تتوقف على مسألة إتاحة المناخ الصحي للتعددية الفكرية وحرية التعبير والتفكير، في ضوء احترام الدستور والقانون. غير أن المشكلة ليست بهذه البساطة لأنه توجد ظاهرة أساسية في الثقافات الإنسانية المتنوعة، وهي الصراع بين ما نسميه رؤى متناقضة للعالم. ورؤية العالم هي مصطلح أساسي في التحليل الثقافي. ورؤية العالم حسب هذا التعريف هي النظرة للكون وللمجتمع وللإنسان. هناك رؤية علمانية للعالم نشأت بعد عصر التنوير في أوروبا، أبرز ما فيها القول إنه ينبغي فصل الدين عن السياسة. فتاريخ الكنيسة معروف بما فيه من تحكمها الفكري وتزمتها العقائدي وهيمنتها على الإنسان. أما الرؤية العلمانية فتدعو لقيام دولة مدنية، في ظل الدستور والقوانين، بما تتضمنه السلطات التشريعية والقضائية والدستورية. العلمانية على عكس ما يروج بعض أنصار نظام الإسلام السياسي، تحترم العقائد الدينية، وتضمن حرية الإيمان، بشرط أساسي وهو ألا يتدخل الدين في السياسة. هناك رؤية مضادة لهذه الرؤية، تسمى الرؤية "الثيوقراطية" للعالم وهي "أن الدين وخصوصاً الدين الإسلامي -كما يقال- دين ودولة. والمنادون بهذه الرؤية بعضهم وخصوصاً الشيعة في إيران أعلنوا مذهب "ولاية الفقيه" وأسسوا دولة دينيه هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن ناحية أخرى يحاول "الإخوان المسلمون" في مصر وخصوصاً في برنامج حزبهم السياسي المقترح والذي طرحوه على الرأي العام، صياغة مذهب لولاية الفقيه على الطريقة السُّنية. لأنهم يقترحون إنشاء مجلس أعلى للفقهاء تعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية والبرلمان للموافقة عليها أو رفضها. أليس في ذلك تأسيساً لدولة دينية؟ إن الدولة الدينية تقوم على الفتوى وهي آلية هذا النظام. أما في الدولة المدنية فالتشريع تحت رقابة الرأي العام هو الآلية التي تحقق الديمقراطية وليس الفتوى. وهكذا يمكن القول إن الشمولية الفكرية إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه صياغة المستقبل في مصر والعالم العربي.