شهد "منتدى الاتحاد" الذي عقد في أكتوبر الماضي نقاشاً علمياً حول العولمة بشكل عام والعولمة الثقافية المرتبطة بالهوية بشكل خاص، حيث طرحت الكثير من الأفكار والتصورات حول كيفية التعامل مع عصر العولمة وموقع كل طرف في هذا الاصطفاف الجديد للتقسيم الدولي للعمل. نظر البعض إلى هذه الظاهرة الجديدة بصورة براغماتية، ورأى ضرورة التعامل معها بواقعية ودون أحكام مسبقة، خصوصاً وأن الطفرات المتتالية في التقدم العلمي والاتصالات والمواصلات تتطلب التأقلم مع هذه المستجدات والتعامل معها بموضوعية. أما البعض الآخر، فقد رأى في العولمة نوعا من الهيمنة الجديدة للدول الكبرى، ولكنها هيمنة تختلف عن السابق، إذ أنها شاملة لمختلف مناحي الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وذلك ضمن نظرة تقليدية لتفسير التطورات العالمية المتلاحقة. في البداية لا بد من الإجابة على سؤال محدد، وهو أنه هل تملك مختلف البلدان والتجمعات الإنسانية خيار الانضمام إلى ركب العولمة ؟ أي هل تستطيع مجموعة معينة الانعزال عن المجتمع الدولي بحجة حماية الخصوصيات والثقافة؟ في هذا الجانب نعتقد أن هناك، وبالأخص لدى مثقفي البلدان النامية حساسية تاريخية في التعامل مع الغرب المتطور، حيث عادة ما تحوم حول التوجهات المستجدة الشكوك والحذر بسبب العلاقة التاريخية المرتبطة بفترة الاستعمار، متناسين أن هذه الحقبة التاريخية قد مضت، وأصبحت بإيجابياتها وسلبياتها في ذمة التاريخ، وأن الرجوع إلى الوراء أمر غير ممكن لأسباب موضوعية عديدة. العالم يتغير بصورة سريعة جداً والعولمة تفرز مستجدات تختلف تماماً عن المراحل التاريخية السابقة، وهي تتيح بشكل أو بآخر فرصا للجميع للاستفادة من هذه المستجدات، وذلك بشرط معرفة كيفية التعامل مع هذه التطورات من خلال التغيير وتهيئة الأساسيات الاقتصادية والاجتماعية لوضع البلد المعني على خريطة العولمة. هناك أدلة واضحة على توفر هذه الامكانيات والفرص، إذ أن العديد من البلدان النامية حققت تقدماً ملحوظاً في اقتصادياتها في السنوات الماضية، سواء النفطية منها، كدول الخليج، أو غير النفطية، كالهند والصين، في حين لم تستطع بلدان كبيرة ومتطورة، كالولايات المتحدة تحقيق نفس المستويات المرتفعة من الاستفادة من فرص العولمة، مما حدا بالكونجرس الأميركي أكثر من مرة إلى رفض بعض القرارات والتوصيات الصادرة عن منظمة التجارة العالمية، وبالأخص تحرير تجارة بعض أنواع السلع والخدمات وإعادة النظر في الدعم المقدم للمنتجات الزراعية. نعم معظم البلدان الصناعية تملك أفضليات في بنيتها الأساسية وخبرتها وقوة اقتصادياتها، إلا أن ذلك لا يعني أن البلدان النامية لا تستطيع الاستفادة من مستجدات العولمة إذا ما طورت من أنظمتها وتشريعاتها وسخرت إمكانياتها المادية والبشرية لتدعيم مواقعها في ظل العولمة. من ضمن الظواهر المستجدة، حرص البلدان المتطورة على توفير فرص عمل في البلدان النامية للحد من تدفق المهاجرين إليها، حيث لم تكن هذه البلدان تعاني من هذه المشكلة قبل ثلاثة عقود، وتتم عملية توفير فرص العمل، إما عن طريق إقامة مشاريع تنموية في هذه البلدان، أو عن طريق آلية العرض والطلب على الأيدي العاملة على المستوى العالمي، حيث تتوفر في العديد من البلدان النامية كفاءات مدربة تدريباً جيداً وتستطيع بفضل العولمة إنجاز معاملات ومتطلبات الشركات العالمية، دون أن تغادر بلدانها الأصلية، إذ أدى ذلك، ويؤدي إلى انتقال ملايين من فرص العمل من البلدان الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية إلى الهند والمكسيك وغيرهما من البلدان الصاعدة. هذه المستجدات والتي طرحنا بعضاً منها بصورة مختصرة جداً تفسح لنا المجال للإجابة على السؤال الأساسي: هل نريد أن نكون جزءاً من العولمة أم لا؟ الإجابة بلا غير ممكنة من الناحية العملية، إذ أن ذلك يعني الانعزال وتفويت الفرص المتاحة والتقوقع على الذات، وما قد يتلوها من عواقب. لذلك، فإن الانضمام لركب العولمة أمر لا يملك أحد فيه الخيار، عدا التعامل بروح موضوعية وتحضير الأرضية التي تتيح له الاستفادة من إفرازات العولمة، بامتلاك الأفضليات النسبية ورفع قدراته التنافسية من جهة وإدخال مبتكرات العلم والتكنولوجيا والاتصالات والإعلام في تسيير مرافق المجتمع وإعداد المؤهلات البشرية التي يمكنها التعامل مع مستجدات العولمة، هذه هي الطريق أمام كافة البلدان المتطورة منها والنامية، حيث يمكن للعولمة أن تفرض بعد سنوات اصطفافا وتصنيفا جديدين لبلدان العالم.