ليست الشمولية الفكرية هي فقط التي تهدد بإعاقة الإصلاح في المجتمع المصري بوجه خاص والمجتمع العربي بوجه عام. ولكن ما يؤثر سلباً على مسار التقدم هو ممارسة التعددية في ظل الشمولية السياسية! والشمولية الفكرية التي أشرنا إليها من قبل، تتمثل أساساً في سيادة فكر إيديولوجية الليبرالية الجديدة، التي تحت شعار السوق الحرة المفتوحة والتنافسية العالمية في ظل العولمة، تريد أن تمحو من الوجود المسؤولية التنموية للدولة، ولذلك تنزع إلى إلغاء عملية التخطيط على المستوى الكلي، وترك عملية الاستثمار بالكامل تقريباً للقطاع الخاص الأهلي أو الأجنبي. بل إن الليبرالية الجديدة تريد للدولة أن تستقيل من وظائفها الاجتماعية، التي تتمثل في رعاية المواطنين في مجالات التعليم والصحة والتشغيل، وترك الأمور نهباً للرأسمالية محلية كانت أم وافدة. وهذا التفكير الأحادي Pensé unique في مجال التنمية بالغ الخطورة، لأنه يستبعد خيارات متعددة، ويقضي في المهد على بدائل متنوعة في مجال التنمية المستدامة. وقد أظهرت تجربة دول أوروبا الشرقية عقب سقوط الاتحاد السوفييتي الأهمية القصوى للتنوع في المجال التنموي. ذلك أنه ظهرت بالإضافة إلى تنامي الملكية الخاصة في مجال المشروعات الملكية التعاونية، وملكية العاملين في المشروعات، بالإضافة إلى بقاء بعض القطاعات الاستراتيجية الأساسية ملكاً للدولة. وقد رأينا في مصر في السنوات الأخيرة نزوعاً -بعدما تمت خصخصة مصانع الحديد والإسمنت- إلى احتكار هذه السلع، مما أدى إلى ارتفاع حاد في الأسعار ما أدى لتعطيل حركة البناء، والتأثير السلبي على مشروعات الإسكان. وأياً ما كان الأمر، فإن الشمولية الفكرية أو الفكر الأحادي في مجال التنمية إذا ما صحبته الشمولية السياسية حتى ولو مورست بالفعل وليس بالقانون في ظل تعددية سياسية شكلية، يصبح ذلك عقبة كبرى في سبيل تقدم المجتمع. ولو أردنا التفصيل في هذا الموضوع المهم، لقلنا إن النظام السياسي في مصر يقوم على التعددية السياسية، ولكنها تعددية سياسية مقيَّدة في النظرية وفي التطبيق على السواء. وذلك لأن قانون الأحزاب السياسية يحظر إنشاء أحزاب دينية أو فئوية. وقد يكون هناك منطق واضح في هذا الحظر، لأن الأحزاب الدينية لو قامت في المجتمع فإنها -من واقع الخبرة التاريخية- ستمارس شمولية دينية أقسى من الشمولية الفكرية التي شهدها التاريخ الإنساني من قبل، سواء في صورة الشيوعية المتطرفة، أو الرأسمالية المتوحشة! ولدينا في هذا الصدد تجربتان إحداهما شيعية والأخرى سُنية. أما التجربة الشيعية فتتمثل في جمهورية إيران الإسلامية التي تطبق مبدأ "ولاية الفقيه" ويحكمها مجموعة من الملالي (رجال الدين) وفقاً لشمولية فكرية دينية رجعية ومتعصِّبة. وهذا التعصُّب يمارس إزاء الخصوم السياسيين مثل الليبراليين الذين يحكم عليهم بالإعدام أحياناً جزاء على معارضتهم للنظام، أو إزاء الغير من الأجانب غير المسلمين. ويكفي مراجعة تصريحات "أحمدي نجاد" رئيس الجمهورية الإيرانية في الحديث عن الآخر المختلف. ونفس الموقف شهدناه في السودان، حيث طبقت الشريعة الإسلامية بطريقة متزمتة، أدت إلى انهيار المجتمع السوداني والفشل السياسي الذريع، وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع المدى. ومما يؤكد صحة منطق قانون الأحزاب السياسية المصري في حظره للأحزاب الدينية، ما طرحته جماعة "الإخوان المسلمين" مؤخراً من برنامج لإنشاء حزب سياسي بمرجعية إسلامية، وهكذا اكتشفنا أن هذه المرجعية ليست سوى محاولة تأسيس دولة دينية، يهيمن على قراراتها الاستراتيجية مجلس من الفقهاء الدينيين (لم يوضحوا حتى كيف سيختارون!) غير أنه أخطر من القيود القانونية التي قد تكون مبررة على إنشاء الأحزاب السياسية، أن القيود الفعلية التي تضعها الحكومة على حركة الأحزاب، وأبرزها ما يفرضه قانون الطوارئ المطبق منذ عشرات السنين، من شأنه أن يشل حركة الأحزاب السياسية المعارضة. وهذه الأحزاب السياسية المعارضة -بكل موضوعية- أحزاب تعاني من مشكلات جسيمة، سواء بالنسبة لخطابها السياسي الذي هو إعادة إنتاج لخطاب الستينيات بالنسبة لبعضها، أو تقليد مشوه لخطاب حزب الأغلبية وهو "الحزب الوطني الديمقراطي"، أو تشبث بمقولات إيديولوجية. بعبارة مختصرة هذه الأحزاب السياسية المعارضة عجزت عن التفاعل الخلاق مع عصر العولمة بكل تحدياته، ومع الواقع المصري بكل مشكلاته. ولذلك قنعت بتوجيه النقد الحاد للسياسات الحكومية، ولكنها عجزت في نفس الوقت عن تقديم بدائل عملية قابلة للتنفيذ للسياسات الرسمية الفاشلة في مجالات التشغيل والصحة والإسكان والتعليم. وقد أدى هذا الموقف المعقد إلى ممارسة سياسية بالغة الشذوذ. لأن التعددية السياسية التي ينص عليها القانون تحولت عملياً إلى شمولية سياسية! بمعنى أن حزب الأغلبية وهو "الحزب الوطني الديمقراطي" أصبحت له الكلمة العليا في رسم السياسات واقتراح القوانين وإقامة المشروعات الاقتصادية في إطار الفكر الليبرالي الأحادي العقيم، وبدون الاستفادة من توجهات الأحزاب السياسية الأخرى، أو على الأقل بدون إقامة حوار مجتمعي شامل تتعدد فيه التوجهات الفكرية وتتصارع الرؤى، وتتفاعل الاستراتيجيات المختلفة، حتى يخرج من كل هذه العملية الحوارية الكبرى فكر تنموي أصيل، لا يكون منحازاً -كما هو الآن- للطبقة العليا في المجتمع على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة، ولا يعتمد اعتماداً أساسياً في مجال الاستثمار والسلطة على رجال الأعمال. وإنما يعدد منابع التفكير ويوسع دائرة الاستشارة ولا يقصر التنمية على اختيار وحيد هو الاختيار الرأسمالي. وفي هذا التفكير البديل لابد من إفساح المجال أمام المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة لكي يسهم في مجال التنمية. ونحن نعرف أن الدولة المصرية في حقبة تاريخية مضت تعمدت السيطرة على المجال العام بالكامل، ولم ترد أن تسمح بأي بادرة تحرك مستقل لأي هيئة خارج إطار الدولة، ولذلك تجمد المجتمع المدني. ولكن في عصر التعددية السياسية التي نريد تفعيلها لتصبح تعددية حقيقية، وفي ضوء إحياء المجتمع المدني وهيئاته وتعدد نشاطاته في مجال حقوق الإنسان، هناك حاجة إلى أن يبسط رواقه على كل مجالات التنمية. فلدينا مشكلات الفقر المتزايد والبطالة وتلوث البيئة ومشكلات الإسكان والتحضر. وكل هذه المشكلات تحتاج إلى حلول إبداعية، ولا ينبغي أن نلتمسها بالضرورة عند الحكومة. غير أن المجتمع المدني المصري الذي يواجه الدولة التي تسعى إلى الحد بالقانون من نشاطاته لأسباب شتى، لديه مشكلة وهو ينقسم في داخله وفقاً لتعدد رؤى العالم السائدة بين أجنحته المختلفة. فبعض هذه الأجنحة يتبنى رؤية دينية منغلقة للعالم، ويسعى إلى تديين كل سلوك اجتماعي سياسياً كان أو اقتصادياً أو ثقافياً، وفي مواجهتها هناك أجنحة أخرى تتبنى رؤية علمانية منفتحة تريد فصل الدين عن الدولة، وترسيخ قواعد الدولة المدنية. ومعنى ذلك أنه بالإضافة إلى مشكلات الشمولية الفكرية والتعددية السياسية المقيدة، نحن مواجهون بتحديات الصراع الثقافي الذي زادت حدته في العقود الأخيرة، ويحتاج منا إلى تحليل وإبداع في مجال إيجاد الحلول الفعالة.