تغيير فجائي آخر في صفوف شاغلي مناصب وزارة الخارجية الأميركية التي طالتها هي أيضاً ظاهرة الاستقالات اللافتة بين موظفي البيت الأبيض. فيوم الجمعة الماضي أعلن عن استقالة نيكولاس بيرنز من منصبه كوكيل مساعد للشؤون السياسية في الوزارة، حيث من المتوقع رسمياً أن يخلفه سفير الولايات المتحدة الحالي في موسكو وليم بيرنز... فما هي الخلفيات المهنية والفكرية لهذا الأخير؟ وكيف تبدو الدلالات السياسية وراء تعيينه؟ سيحل وليم في منصبه المنتظر محل نيكولاس الذي تولى إدارة الملف الإيراني، وكان "مهندس سياسات إيران" خلال العامين الماضيين، حيث نجح في إقناع البيت الأبيض بانتهاج الدبلوماسية وسياسة العصا والجزرة بالتعاون مع الأوروبيين للضغط على طهران، بدل سياسة انفرادية أكثر بطشاً في إدارة هذا الملف، وهي ما يحبذه صقور الإدارة. كما استطاع إقناع دول مجلس الأمن وألمانيا بجدول العقوبات على إيران. لكن نيكولاس الذي قالت الخارجية الأميركية إنه استقال "لأسباب شخصية"، لن يغادر منصبه قبل مارس المقبل، أي مع استكمال العمل على مساعدة الهند في برنامجها النووي، وربما في الوقت نفسه تحقيق اختراقات جديدة على جبهة الملف الإيراني. وفي غضون ذلك سيتعين على بوش أن يحصل على موافقة من مجلس الشيوخ على قراره المرتقب حول ترشيح وليم بيرنز لتولي ثالث أرفع منصب في الخارجية الأميركية. فالسفير بيرنز يعد أحد أهم الدبلوماسيين المخضرمين الذين عملوا في المصالح الخارجية الأميركية منذ ما يربو على ربع قرن، وهو مستعرب متميز وذو دراية كبيرة بالشؤون العربية. ولد وليم جوزيف بيرنز في مدينة فورت براغ بولاية كارولينا الشمالية عام 1956، وحصل على بكالوريوس في التاريخ من جامعة "لاسال"، وعلى درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أوكسفورد، كما نال ثلاث شهادات دكتوراه فخرية، وهو مؤلف كتاب "المساعدات الاقتصادية والسياسة الأميركية إزاء مصر خلال السنوات من 1955 إلى 1981" الصادر عن "نيويورك برس" عام 1985. وقبل ذلك بثلاث سنوات، بدأ بيرنز مشواره في العمل الدبلوماسي من عمّان كمستشار سياسي للسفارة الأميركية، وفيما بعد عمل إلى جانب كولن باول في مجلس الأمن القومي. ثم عاد مرة أخرى إلى العاصمة الأردنية كسفير للولايات المتحدة عام 1998، حين كان الملك الحسين بن طلال يخضع لعلاج من مرض السرطان في الولايات المتحدة، أي خلال لحظة حساسة وحرجة من تاريخ الأردن. وفي الفترة بين عامي 2001 و2005 تولى بيرنز منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا، حيث قام بعدة جولات في منطقة الشرق الأوسط، وشارك في أهم اللقاءات التي تمت برعاية الولايات المتحدة ومشاركة الأردن ومصر لدفع المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأثبت جدارته في إقناع الطرفين بالعودة إلى طاولة المباحثات وصولاً إلى "حل نهائي". وبعد أن انقطع عن المنطقة خلال عام 2004 كله، عاد بيرنز إليها في يناير من العام التالي، معلناً أن هدفه هو تحريك "خريطة الطريق" ومساعدة الفلسطينيين في المجالات الأمنية. وعلى ضوء الأهداف المرحلية لإدارة بوش في المنطقة واتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فقد اعتبرت جهود بيرنز "إيجابية جداً" من منظور البيت الأبيض الذي قرر تعيينه سفيراً لدى موسكو، وهو القرار الذي ثبته مجلس الشيوخ الأميركي في يوليو 2005. وفي موقعه الحالي كسفير للولايات المتحدة لدى روسيا الاتحادية، نجح بيرنز في تخطي عدة أزمات بين الدولتين، وفي تقديم عدد من المبادرات المهمة بالنسبة للولايات المتحدة. ويعتقد بوش أن السفير بيرنز في موقعه المقبل داخل الخارجية الأميركية، سيعمل بنفس الحماس والفاعلية اللذين ميزا نشاطه في موسكو وخلال مساره الدبلوماسي كله، وأنه سيساعد على تحقيق أهداف مهمة للسياسة الخارجية الأميركية. فبيرنز الذي يحافظ على رشاقته وقوامه الأنيق، يتمتع بقدرات كبيرة على التواصل مع محيطه والتأثير في من يخالطونه. وهو يتقن، إلى جانب العربية، كلاً من الروسية والفرنسية. وقد سبق لإحدى المجلات الشهيرة في عام 1994 أن وضعته على قائمة "أكثر 50 مسؤولاً واعداً تحت الأربعين"، كما ضمته مجلة أخرى إلى قائمة "أهم 100 قائد شاب"، وهو حاصل على جوائز رئاسية وعلى عدد من أوسمة الشرف الشهيرة. وخلافاً لسلفه نيكولاس بيرنز الذي استقال كي يتفرغ لإدارة شؤون أسرته، كثيراً ما قال وليم بيرنز إن أسرته التي تتألف من ابنتيه وأمهما "ليزا كارتي"، لا تشكل أي عبء على عمله الدبلوماسي. ورغم ما يقال عن المواهب والإمكانات الشخصية التي يتمتع بها وليم بيرنز، فإنه مع ذلك لا بد من الإشارة إلى سجل إنجازاته المتواضع في موسكو، حيث اتسمت فترة انتدابه فيها سفيراً لواشنطن، بمصاعب وأزمات عاصفة بين العاصمتين؛ سواء لجهة خلافهما العويص حول مشروع الدرع الصاروخية الأميركي في أوروبا الشرقية، أو لجهة مواقفهما المتضادة حول مصير كوسوفو، أو فيما يتعلق بالموقف الروسي من البرنامج النووي الإيراني، أو سياسات الطاقة التي تتبعها موسكو... حيث يتضح أن بيرنز أخفق تماماً في التأثير على مواقف صانع القرار الروسي من تلك القضايا التي تعد محورية بالنسبة لواشنطن. وإذا ما وافق مجلس الشيوخ على القرار المتوقع من جانب الرئيس بوش بترشيح وليم بيرنز لمنصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، وهي موافقة مرجحة بدرجة عالية، فسيرث بيرنز عن سلفه بيرنز ملفين شائكين للغاية، وإن بدرجة متفاوتة، أي ملف "النووي" الإيراني وملف "النووي" الهندي، ومما يزيدهما تعقيداً على تعقيد مفارقات الموقف الأميركي نفسه في هذا الشأن وصعوبة الدفاع عن الازدواجية الكامنة بجلاء في بنائه المنطقي!