جولة الرئيس الأميركي جورج بوش في منطقة الشرق الأوسط – التي لم تكن في محلها بالنظر إلى القوى والمصالح الحقيقية للمنطقة- وكل ما قاله هناك تقريباً عن التهديد الإيراني المزعوم، والسلام الإسرائيلي الفلسطيني، وتصوره الخيالي للتطور الديمقراطي في العراق، وحتى عن ارتفاع أسعار النفط والاقتصاد الأميركي، تسببت في حرج كبير لمضيفيه العرب، إضافة إلى المسؤولين والصحافيين الأميركيين المرافقين له. فقد زكت جولته –الوداعية للشرق الأوسط؟- الاستنتاج الذي توصل إليه الكثيرون في الخارج منذ مدة، والقائل بأن بوش لم يعد يحكم الولايات المتحدة، بل ولا يفهم علاقاتها الخارجية الحالية. فحالياً، يسود شعور على نطاق واسع بأن ما يشبه انقلاباً قد حدث في الولايات المتحدة، سُحبت خلاله من جورج بوش، من دون أن يقر بذلك (أو أن يعترف بحدوثه على الأقل)، سيطرته على المواضيع الرئيسية للحرب والسلام. وقد اتخذ هذا الانقلاب شكل ما يشبه تمرداً من قبل مسؤولي أجهزة السياسة الخارجية التابعة لحكومة الولايات المتحدة، وذلك بموافقة ضمنية من وزير الدفاع الجديد، وقادة الجيش، ومدير الاستخبارات المركزية الذي عينه بوش نفسه. أما التنفيذ، فقد قامت به أجهزة الاستخبارات الست عشرة الرسمية التابعة للحكومة الأميركية، ليس كنوع من تحدي القانون، وإنما عبر التطبيق الوفي والصادق لواجبهم مثلما ينص على ذلك القانون، متمثلا في تشكيل حكم مشترك بمعزل عن الضغوط أو المصالح الحزبية بخصوص المسائل التي تهم مصالح البلاد. وهكذا، أُعلن عن تقرير أجهزة الاستخبارات الأميركية في الثالث من ديسمبر الماضي– بعد استشارات مع الوكالات المدنية والعسكرية حُرص خلالها على تحصينها من تدخلات الشخصيات الحزبية السياسية في إدارة بوش- وقُدم إلى البيت الأبيض والصحافة والبلاد برمتها كنوع من الأمر الواقع. وجاءت خلاصات التقرير لتفند ادعاءات البيت الأبيض وغيره القائلة بأن إيران تعمل على تطوير أسلحة نووية، في تناقض تام مع الرأي الجماعي لكل أجهزة الاستخبارات التابعة لحكومة الولايات المتحدة. كان الأمر ينطوي على تهديد ضمني؛ ويتمثل في أن قادة الأجهزة العسكرية الرئيسية ورؤساءهم في وزارة الدفاع لن يقوموا بتنفيذ أمر رئاسي يقضي بمهاجمة إيران. غير أن هذا القرار لن يتخذ شكل رفض وعصيان مباشر للأوامر، وإنما سيكون رفضاً من قبل الجيش وقادته لتنفيذ أي أمر من هذا القبيل إلى حين أن يتم إبلاغ الكونجرس واستشارته، ويقوم بواجبه الدستوري المتمثل في منح موافقة تشريعية رسمية على أعمال الحرب. وهكذا، تسبب الرفض المحزن والجبان للكونجرس خلال السنوات الأخيرة –ونحن لا نقصد بذلك الكونجرس الحالي فقط، وإنما كل كونجرس أميركي تقريباً منذ الحرب الباردة- للقيام بمسؤولياته الدستورية في ما يتعلق بإعلان الحروب وتمويلها، في انتقاده ومعاتبته من داخل الفرع التنفيذي للحكومة اليوم. وعلى هذه الخلفية، فإن الزعماء في الفرع التنفيذي غير مستعدين اليوم لتنفيذ الأوامر الرئاسية التي لا تحمل معها ترخيص الفرع التمثيلي للحكومة (الكونجرس)، مثلما ينص على ذلك الدستور. وهو ما يمثل رداً من قبل الفرع التنفيذي على الجهود التي يبذلها البيت الأبيض في عهد إدارة الرئيس بوش، والذي يتصرف وفق نظرية جديدة ومثيرة للجدل تقول بمنح صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية بخصوص المسائل التي تتعلق بالأمن القومي، وذلك من أجل تغيير ممارسة وسوابق الحكومة الأميركية بشكل دائم. حتى الآن، لم تواجَه هذه الجهود بمعارضة فعالة وقوية في الكونجرس، بل إنها حظيت عموماً بدعم جهاز قضائي بات خائفاً من الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها وزارة العدل في عهد بوش، وتعيينات إدارته على الصعيد الفيدرالي والمحكمة العليا، ما جعلهم يميلون إلى التلميح إلى أن النظرية الجديدة قد يتم تبنيها بشكل دائم. حيث لم تكن ثمة مقاومة قضائية قوية لتحدي الإدارة للقواعد الأساسية للحكومة والعدالة الأميركيتين: احترام السوابق الإنسانية، والالتزام في إطار القانون الدولي بالاتفاقيات بخصوص معاملة المدنيين زمن الحرب، واحتجاز ومعاملة السجناء، أو "المعتقلين"، وما يصفه "إعلان الاستقلال الأميركي" بـ"الاحترام الكريم لآراء الإنسان". إلى ذلك، يمكن وصف المسألة أيضاً بأنها تمرد من قبل ما أضحى اليوم من العادي وصفه بالمجتمع المدني، ونقصد به تلك الأقلية التي يشكلها زعماء المؤسسات المهمة في المجتمع، الذين يتمتعون بحس المسؤولية، وهؤلاء يريدون المطالبة بمحاسبة الحكومة الأميركية، والدفاع عن القواعد التقليدية للمجتمع الأميركي مثل العدالة والحشمة وغيرهما. اليوم، يبدو من المعقول القول إن نوعاً من التعقل قد حدث على صعيد الرأي الأميركي، يبرر التمرد الذي حدث داخل الحكومة؛ وذلك في وقت أصبح فيه انعدام مسؤولية حكومة بوش-تشيني واضحاً بشكل متزايد (فالعام الماضي اتضح عزمها الواضح على بدء حرب أخرى في الشرق الأوسط، مع ما كان ينطوي عليه ذلك من خطر إثارة صراع إقليمي يورط الولايات المتحدة لسنوات). ربما أكون بصدد الإعراب عن رأي رومانسي حول ما حدث. وآمل ألا يكون الأمر كذلك. وشخصياً، أعتقد أن خطأً فادحاً في الحكم وتصرفاً مخالفاً للدستور فقط قد يبررا "انقلاباً" –وذلك مهما كان الطابع "ما بعد الحداثي" الذي يتخذه، ومهما كانت دوافعه. ولكنني أود أن أشير إلى أن الحملة الانتخابية الدائرة رحاها حالياً تبرز أن القوى الموجودة داخل الدوائر السياسية ودوائر السياسة الخارجية في واشنطن، والمدعومة من قبل المصالح المالية والصناعية، ملتزمة بالقضاء على كل تحد للسياسات التي غيرت منذ بعض الوقت الطابع السياسي للولايات المتحدة. ولذلك، فلا بد من الدفاع عن نظام الحكم الأميركي! ويليام فاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"