لطالما اعتمد الإنسان في علاج أمراضه وعلله على ما توفره له الطبيعة من مصادر متنوعة، وهي الحقيقة التي لا زالت قائمة حتى يومنا هذا. ففي القرن الحادي والعشرين، وفي زمن الطب الحديث، وعصر شركات الأدوية العملاقة، لا زال عدة مليارات من البشر يعتمدون على النباتات والأعشاب في العلاج والمداواة. كما أن نصف المواد الكيميائية الفعالة في الأدوية والعقاقير الطبية الحديثة، تستخلص حالياً من مواد طبيعية، أو تم اكتشافها بداية في نبات أو حيوان، قبل أن ينجح الإنسان في تصنيعها لاحقاً. هذا المصدر الطبيعي الحيوي، يتعرض حالياً لخطر الانقراض والاختفاء، حسب تقرير صدر الأسبوع الماضي عن الجمعية الدولية لحماية النباتات (Botanic Gardens Conservation International) ، التي تمثل الجمعيات النباتية لمئة وعشرين دولة حول العالم. فمن خلال مسح شمل ستمائة من أعضاء الجمعية، وأساتذة الجامعات، والخبراء الأكاديميين، خلص تقرير الجمعية إلى أن أكثر من أربعمائة صنف ونوع من النباتات الطبية (Medicinal Plants)، أصبح مهدداً حالياً بالاختفاء والانقراض التام. وتعزو الجمعية هذه الظاهرة المؤسفة إلى سببين رئيسيين، هما فقدان الغطاء النباتي في العديد من مناطق العالم بسبب التصحر واقتلاع الغابات، أو فرط الجمع أو الحصاد وهي العملية التي يتم فيها جمع وحصاد تلك النباتات بمعدلات أكبر من قدرة البيئة الطبيعية على الإحلال. وتحذر الجمعية من أن استمرار هذه الظاهرة، لن يقضي فقط على أحد أهم المصادر المتاحة لعلاج الكثير من الأمراض والعلل، بل سيهدد أيضاً قدرتنا على اكتشاف علاجات جديدة وحديثة للكثير من الأمراض التي لا تزال مستعصية على العلاج، مثل الإيدز والسرطان. ويمكننا من خلال استعراض بعض ما تقدمه النباتات الطبية، أن ندرك تبعات انقراضها. فعلى سبيل المثال، يتم استخلاص أحد أكثر الأدوية استخداماً في علاج السرطان (paclitaxel)، من لحاء شجرة الطقسوس (Yew tree). ولكن بما أن إنتاج جرعة واحدة من هذا العقار، يتطلب لحاء من ست أشجار، تتعرض شجرة الطقسوس حالياً لحصاد مكثف، يهدد وجودها من الأساس. وهناك أيضاً شجرة المغنولية أو المجنوليا (Magnolia)، التي استخدمها الصينيون منذ أكثر من خمسة آلاف عام في طب الأعشاب. إما لعلاج خرف الشيخوخة، أو لإبطاء تدهور حالة مرضى القلب، أو لعلاج بعض أنواع السرطان. ولكن للأسف بسبب تزايد ظاهرة فقدان غطاء الغابات، يتعرض أكثر من نصف أنواع المجنوليا حالياً لخطر الانقراض. وربما كان نبات "الهوديا" (Hoodia)، من أفضل الأمثلة على الأسرار التي لا زالت النباتات الطبيعية تحملها في طياتها، وعلى الحلول التي يمكن أن تقدمها للعديد من المشاكل الصحية التي يواجهها إنسان العصر الحديث. فهذا النبات الذي يستوطن صحراء ناميبيا في جنوب القارة الأفريقية، استخدمه السكان المحليون منذ آلاف السنين، لسد شهيتهم ودرء الشعور بالجوع خلال الفترات التي يندر فيها الطعام وتتباعد فيها فرص الصيد والقنص. فقدرة هذا النبات على خلق إحساس طبيعي بالشبع، جعلته حلاً مثالياً لمشكلة وباء السمنة، الذي يسري حالياً سريان النار في الهشيم في غالبية دول ومناطق العالم. وخصوصاً في ظل أن جميع الأدوية التي خرجت بها علينا معامل شركات الأدوية متعددة الجنسيات حتى الآن، إما كانت باهظة الثمن دون فائدة تذكر، أو أنها تسببت في أعراض جانبية خطيرة طغت على ما تحققه من فائدة. ولكن بسبب الطبيعة الجغرافية الصحراوية للمناطق التي تنمو فيها، تتناثر شجرة "الهوديا" على مساحات واسعة وبأعداد قليلة. وفي ظل تكالب شركات الأدوية على انتزاع ما هو موجود منها، لإجراء التجارب والاختبارات، في محاولة لفهم سر وطريقة عمل هذا النبات المعجزة، أصبحت "الهوديا" هي الأخرى مهددة بالاختفاء التام. النبات الآخر الذي يحتل حالياً مكانة مهمة من المنظور الطبي، ويقع ضمن قائمة النباتات المهددة بالاختفاء، هو نبات الزعفران الخريفي (Autumn Crocus). هذا النبات استخدمه الإغريق والرومان كنوع من السم القاتل، ولكن كشفت الأبحاث والدراسات الحديثة عن فعاليته الفائقة في علاج مرض النقرس الذي يعرف أحياناً بمرض الملوك، بالإضافة إلى دوره في مكافحة اللوكيميا أو سرطان الدم. والغريب أن مصدر الخطر على بقاء هذا النبات، هو إعجاب محبي النباتات بأزهاره فائقة الجمال، مما جعل جمعه وبيعه في محلات الزهور تجارة رائجة. وهذه الأمثلة السابقة، لا تفي المئات من النباتات الطبية حقها، والمقصود منها فقط هو استعراض الصورة العامة. ورغم أن المعامل الحديثة يمكنها تصنيع المواد الفعالة الموجودة في العديد من هذه النباتات والأزهار، إلا أن المشكلة تكمن في أن العلم الحديث لم يتمكن بعد من معرفة تركيب وطبيعة المادة الفعالة في تلك النباتات. وتتفاقم هذه المشكلة بشكل أكبر، عندما يتعلق الأمر بنباتات لم ندرك بعد طبيعة ما تحتويه من مواد فعالة، ومدى فوائدها الصحية وأبعاد تطبيقاتها العلاجية. فليس من المستبعد أن النباتات والكائنات الحية الأخرى، التي يتزايد انقراضها يوماً بعد يوم بسبب النشاطات البشرية، تحتوي هي الأخرى على مواد فعالة، فريدة في تركيبها وفي قدرتها على علاج الأمراض. ولكن للأسف ستندثر هذه النباتات، قبل أن ندرك ما كان يمكن أن تحققه لنا من فوائد. هذا الاندثار المتزايد للنباتات الطبية، والذي يقع ضمن ظاهرة تناقص التنوع الحيوي (biodiversity) على كوكب الأرض، لن يهدد خيارات الرعاية الصحية لبني البشر في المستقبل فقط، بل ربما قد يهدد بقاءهم أيضاً. د. أكمل عبد الحكيم