يتعرض قطاع غزه منذ أكثر من سبعة أشهر لحصار إجرامي من قبل قوات الاحتلال، وقد وصل هذا الحصار مستوى خطيراً حين أوقفت الحكومة الإسرائيلية صادرات الوقود والغذاء عن القطاع المحاصر. وتوقفت الحياة والناس عن الحركة في القطاع، وهددت المستشفيات وغرف العمليات بالتوقف عن إجراء العمليات الجراحية، حتى الخطيرة منها، وانقطع الدواء من الأسواق، وتقلصت مستويات الأغذية ومخزوناتها. وحين غرقت غزة في الظلام غرقنا كلنا من الخليج إلى المحيط بظلام داخلي عميق. لقد تجاهلنا مأساة هؤلاء الناس الذين نعتبرهم إخواناً لنا، حتى تساقط منهم أكثر من ثمانين شخصاً، بسبب نقص إمدادات الأدوية التي يحتاجونها. صمت الضمير العربي احتراماً للضمير العالمي الذي اشتراه السيد أولمرت عبر شركة وساطة أميركية. وكلنا شهود على هذه العملية، ولكننا التفتنا إلى الجانب الآخر، لأننا لا نريد أن نواجه الحقيقة. فنحن، مع ضعفنا العسكري، لا زالت لدينا قوة اقتصادية تؤثر في الأسواق العالمية، وتجبر الآخرين على الاستماع إلى آرائنا. ولكننا نتردد كثيراً في قول الحقيقة والصدع بها، كنوع من المجاملة الدبلوماسية. وفي هذه الأثناء تحتشد النساء الضعيفات على بوابة رديئة يحيط بها الجنود الذين يرشُّونهن بخراطيم مياه باردة ويمنعونهن من ألا ينعتقن من السجن الكبير الذي يعشن فيه. حين فشلت الدبلوماسية العربية، نجح أفراد قليلون في تحرير جزء من شعبهم، وكسروا حاجز الخرسانة المحيط بهم، قبل أن نستطيع أن نكسر حاجز صمتنا. لقد تحرك الناس لأنهم يعانون من الجوع والبرد، ويبحثون عن الدواء، ودخلوا عنوة إلى أرض سيناء، إلى إخوانهم في رفح والعريش، الذين رحبوا بهم وأعطوهم وباعوهم ما يحتاجونه من غذاء وماء ودواء. لقد كانت الناس تتحرك عبر السنين بحرية هائلة، واليوم تقام كيانات وحدود سياسية تمنع الناس من الحركة والتجارة والتداخل مع الجيران. ولقد كان الغرض الأساسي من إنشاء هذه الكيانات هو تنظيم حركة البشر، وغدت اليوم وسيلة لمنعهم وردعهم، وإن تطلّب ذلك استخدام العنف في مثل هذا المنع. هل يعني تحطيم الجدار وفتح الأسوار، أن الأفراد قد باتوا يمثلون قوة هائلة لا يمكن لها أن تُكبح، أم أن هذه ظاهرة عابرة لشعب يئن تحت الحصار؟ كان المرحوم ياسر عرفات يسمي الفلسطينيين بشعب "الجبارين" وقد أثبت سكان غزة حين كسروا الطوق المفروض عليهم عنوة أنهم بالفعل جزء من شعب "الجبارين". إسرائيل ومن ورائها الإدارة الأميركية تتحدثان عن تركيع حركة "حماس"، وإسرائيل لا تخشى من تجويع وترويع مليون ونصف مليون فلسطيني في سبيل تحقيق أهداف سياسية قذرة وتحسين صورة مجرم مثل (أولمرت) و(باراك) أمام شعبه. والتي يتبارى فيها هذان السياسيان للحصول على أغلبية سياسية في حملة انتخابية قريبة. لكن الشعب الفلسطيني دفع، ويدفع غالياً ثمن سياسات "حماس"، وسياسات باراك وسياسات أولمرت معاً. والحديث الذي سمعناه في ديسمبر الماضي في "أنابوليس" وفي الخليج خلال زيارة بوش، عن تحويل هذه السنة الجديدة إلى سنة سلام، بات حديثاً لا يصدقه أحد، حتى ربما داخل الإدارتين الأميركية والإسرائيلية. الشيء الرئيس في هذه المأساة، أن مسألة ربط الشبكة الكهربائية في غزة والضفة الغربية، أمر يجب أن ينتهي، لأن ربطها بالشبكة المصرية، أو الشركة الأردنية للكهرباء، هو أوفر بكثير، وآمن ألف مرة من ربطها بمجموعة من القتلة في تل أبيب. كما أن اعتراف الدول العربية بحدود فلسطين في غزة والضفة الغربية، وكأنما هي حدود إسرائيلية، أمر محزن، وهو لا يعكس حتى نصوص اتفاقيات السلام بين كل من مصر والأردن مع الكيان الإسرائيلي، الذي زُرع فوق الأرض العربية ليصبح مصدر آلام وحروب وعنف لا ينقطع. يجب على العرب أن يتحركوا، فالشارع السياسي يموج من تحتهم، والناس تطالب بالحق والعدل، وشعوب العالم لم تعد تثق بما تسوّقه لها آلة الإعلام المسخرّة لأهداف مسيّسه، وباتت ترى الحقيقة حتى مع التعتيم الذي يمارسه الإعلام في العراق وفي فلسطين، وفي غيرها من الدول المستعمرة. إن حضارتنا الإنسانية مهددة بالعنف الذي نشهده ويتعرض له إخواننا في فلسطين، وعلينا الوقوف معهم وبدء حملات إغاثة عاجلة لهم بما يحتاجونه من دواء وغذاء. إننا حين نقف بجانبهم، فإننا نحرر أنفسنا من صدأ عميق يعشعش في صدورنا، وقد حان الوقت لنا للتخلص منه. السياسة ليست عمل المستحيل، بل هي عمل ما يمكن عمله، وهناك الكثير مما يمكننا كعرب وكمسؤولين وسياسيين القيام به، سواءً دبلوماسياً أو عملياً على الأرض. فالناس في أزمة، وإذا لم يتحرك السياسيون، فإن الناس تتحرك لتجد لنفسها مخرجاً من هذه الأزمة.