في الوقت الذي كانت فيه "الجماهير" الفلسطينية تخترق جدار الحدود مع مصر بعد تفجير "حماس" له، وتندفع باحثة عن الغذاء والدواء على الطرف المصري، كانت فصائل "الرفض" الفلسطينية تجتمع بدمشق معلنة عن عدم إيمانها بالحل السلمي وأنابوليس والتسوية، داعية للكفاح المسلح لحين التحرير. أما اللبنانيون فقد كانوا يتطلعون إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب بمقر الجامعة، اليوم الأحد 27/1/2008 للاستماع إلى تقرير الأمين العام للجامعة عن نتائج مهمته بلبنان. وصبيحة الجمعة 25/1/2008، اغتيل في بيروت ضابط في شعبة المعلومات بقوى الأمن الداخلي معروف عنه إسهامه البارز في العمل على كشف جرائم الاغتيال والتفجير على الساحة اللبنانية طوال عام 2007. وما بدأت المشكلة في غزة بتشديد الحصار الإسرائيلي عليها، بل بدأت مرحلتها الحالية باستيلاء "حماس" على القطاع وانهماكها في الاستئثار بالسلطة هناك، تحت سمع إسرائيل وبصرها ووسط تذمر سائر الفصائل الفلسطينية من سيطرة "حماس" على القطاع وعليها. وهكذا فإن الأحداث في فلسطين في عام 2007 تنافسَ في اجتراحها عاملان: إسرائيل والانقسام الفلسطيني. الانقسام الداخلي الفلسطيني مستمر منذ سنوات، وتبلور بعد وفاة عرفات بين "حماس" و"فتح"، وبادرت "حماس" إلى حسم الصراع لصالحها، وتُعاوِنُها الآن كلٌّ من إيران وسوريا. أما إسرائيل فتغذي هذا الانقسام لهدفين: إشغال الفلسطينيين عن إطلاق الصواريخ والقيام بعمليات، ومنع السير في التسوية أو العودة إلى المفاوضات، إما بحجة الأمن أو بحجة أن محمود عباس لا يستطيع ضبط الأمور ولا إنقاذ الاتفاقيات التي يجري توقيعها. أما ما حدث في غزة أخيراً وخاصة فك الحصار بفتح معبر رفح، فتختلف النظرة إليه. "حماس" تعتقد أنها حققت انتصاراً بإحراج مصر والعرب الذين يقفون مع محمود عباس. أما إسرائيل فتعتقد أنها هي التي انتصرت بزعزعة فكرة الدولة الفلسطينية، وهي ترى الآن أن على مصر إعادة الاستيلاء على غزة وإدارتها، لأن العودة إلى وحدة غزة والضفة مستحيلة بسبب العداوة الشديدة بين "فتح" و"حماس". أما في لبنان فقد استيقظت آمال كبرى مع المبادرة العربية وجاء السيد عمرو موسى إلى لبنان مرتين، لكن المعارضة اللبنانية وسوريا أفشلتا المبادرة بطرائق مختلفة: مرة بالإصرار على التفاوض على الحكومة قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومرة بالحديث عن 10+10+10 من الوزراء في الحكومة لكل من الأكثرية والأقلية ورئيس الجمهورية، ومرة ثالثة بتلويح "حزب الله" وسوريا بالتخلي عن ترشيح العماد سليمان وإرسال اقتراح إلى فرنسا مع رئيس الوزراء القطري بترشيح الوزير والنائب السابق فارس بويز بديلاً لسليمان. وبذلك فقد صار واضحاً "أن السوريين و"حزب الله" (وعون) لا يريدون أي رئيس للجمهورية، وسيُبقون مجلس النواب مقفلاً، وقد يحاولون الاعتداء على رئيس الحكومة اللبنانية لإنهاء كل مؤسسات الشرعية، بعد الإصرار على إهانة البطرك الماروني من جانب أنصار سوريا المسيحيين ومن جانب الرئيس نبيه بري! ويحتار المراقبون في علل الإصرار السوري والإيراني (وبينهم الفرنسيون الذين قالوا إنهم محتارون، لكن من سوريا أكثر من إيران) على إفراغ مؤسسات الدولة اللبنانية وهدمها. ويقال إنه بالنسبة لسوريا هناك هدفان: المقاومة المستميتة للمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس الحريري، وما بقي ممكناً أمام التهديد باقتراب قيام المحكمة إلا محاولة هدم الكيان اللبناني بحيث لا يبقى للحق من يطالب به. والهدف الثاني استعادة النفوذ في لبنان بعد حدوث الفوضى. أما إيران فلا تملك المشكلات والأولويات نفسها، لكن عندها انتخابات والمتشددون بزعامة أحمدي نجاد مهددون بالخسارة فيها، لذلك لابد من تحقيق "انتصارات" بالخارج قبل أواسط مارس، موعد الاقتراع. والسبب الآخر اتجاه المجتمع الدولي (بما في ذلك روسيا والصين) لتشديد العقوبات على إيران بسبب ملفها النووي، لذلك فهي لا تريد إظهار تعاون في العراق أو في لبنان. وثمة من يقول إن هناك تنافساً بين سوريا وإيران الحليفتين على لبنان. فالذي حل محل سوريا بعد خروج جيشها من لبنان، ليس فريق 14 مارس (آذار) بل "حزب الله". ولذلك يتحرك الطرفان بالتنسيق (أو بعدمه) كلاً لتثبيت مواقعه في لبنان وفلسطين والعراق. ولأن التنافس يجري على الأرض ذاتها، يظهر بمظهر تخريب يزايد فيه كل طرف على الآخر. وهناك بالطبع -بحسب هذه النظرة- نقاط تلاقٍ مشتركة في المسألة الأمنية. فالجيش اللبناني القوي والموحد يضر وجوده بـ"حزب الله" وبسوريا، لذلك جرى اغتيال الجنرال فرانسوا الحاج. والقوى الأمنية اللبنانية القوية يضر وجودها بالطرفين، لذلك جرت محاولة اغتيال الضابط سمير شحادة من جهاز المعلومات في قوى الأمن الداخلي قبل عام، ثم اغتيل الضابط حسام عيد قبل يومين. وكلا الرجلين كان يعمل في التحقيقات الأمنية والرقابة، ولا يقبل السوريون ولا "حزب الله" أن تصبح الأجهزة الأمنية اللبنانية ذات شوكة. وما أمكن للعرب منع حدوث الانقسام المسلح بين "فتح" و"حماس"، رغم كثرة اللقاءات والاتفاقيات في السعودية وغيرها. والراجح أن ينصرف وزراء الخارجية في اجتماعهم اليوم (بالنسبة للفلسطينيين) الى إدانة حصار إسرائيل لغزة، وأن يدعوا الطرفين، "حماس وفتح"، للتلاقي والاتفاق، وسيظهر كلّ منهما الاستعداد لذلك دون أن يتقدم الأمر خطوة واحدة. أما المشكلة اللبنانية فالراجح أن يتضمن تقرير أمين عام الجامعة إدانة مستترة أو ظاهرة للطرفين اللذين عطّلا، أي المعارضة اللبنانية وسوريا. وكان المعارضون، وعلى رأسهم الرئيس بري، قد اتهموا أمين عام الجامعة بالانحياز للأكثرية. أما صحيفة "تشرين" السورية فقد اتهمته بالخضوع للتوجيهات الأميركية! والظاهر أن المعارضة اللبنانية ما عادت تريد المبادرة العربية، أما السوريون فعادوا لمغازلة الفرنسيين. وإذا كان الطريق على المبادرة قد انسد لهاتين الجهتين، فإن تقرير الأمين العام لن يفتحه بالتأكيد. لذلك ليس من المرجح أن يعود عمرو موسى إلى لبنان أو سوريا قريباً. لكنه إذا لم يعد فإن الساحة اللبنانية السياسية ستنكشف أكثر، إضافة لانكشاف الساحة الأمنية. فهل يتجه لبنان إلى وضع يشبه الوضع العراقي، أو إلى وضع هو بمثابة غزة؟ هناك تشابهات بين العراق ولبنان من حيث بروز الملف الشيعي-السني الذي بذلت سوريا وبذل "حزب الله" جهوداً كبيرة لاستحداثه وتأجيجه، لكن لبنان ليس فيه احتلال، والإيرانيون لا يرغبون في نشوب حرب أهلية بين الشيعة والسنة. لذا فالراجح -إن لم تتغير السياسة السورية- أن نتجه إلى وضع يشبه وضع غزة، بحيث يستمر الحزب في محاصرة السلطة ومحاولة الاستيلاء عليها أو جرفها. وإذا حدث ذلك فاحتمالات النزاع الأهلي قائمة أيضاً. الرئيس نبيه بري الذي أقفل مجلس النواب (لصالح سوريا وإيران) قبل خمسة عشر شهراً، يعود لتكرار معادلته (س+س)، أي ضرورة الاتفاق بين السعودية وسوريا. لكن السعودية تقول إن الاتفاق متعذّر أو لا جدوى منه، لأنها جربت ذلك كثيراً وفشل السوريون بالوفاء بالتزاماتهم. فـ"غزة 2" على الأبواب، لكنها هذه المرة في لبنان وليس في فلسطين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.