تعاني الولايات المتحدة وحلفاؤها من مشكلة متكررة في الحروب التي تخوضها الآن في قارة آسيا، تتمثل في تلك الملاذات السياسية- العسكرية التي يتمركز فيها أعداؤها وأنصارهم وينطلقون منها لإحباط الأهداف الأميركية. في الماضي، حاولت الولايات المتحدة التعامل مع تلك الملاذات عن طريق القصف، وعن طريق قوات العمليات الخاصة، غير أنها لم تنجح في الحالتين. وفي الوقت الراهن يطالب جنرالاتها العسكريون السماح لهم بغزو تلك الملاذات وإنهائها، لأن ذلك سيؤدي- كما هو مفترض- لوضع حل لهذه المشكلة. وفي الحالة الوحيدة التي سمح البيت الأبيض بذلك، والتي كانت في كامبوديا عام 1970، فإن هذا الغزو لم ينجح، بل وأدى إلى كارثة إنسانية. ففي ذلك الوقت وتحديداً في أبريل 1970 عندما كانت الحرب الفيتنامية ما زالت مستمرة، عجزت الحكومة الكمبودية عن وقف تدفق الإمدادات والقوات من فيتنام الشمالية إلى ثوار "الفيت كونج" في فيتنام الجنوبية، مما دفع القوات الأميركية وقوات فيتنام الجنوبية إلى غزو كمبوديا. وكان الهدف من ذلك الغزو، اقتحام وتدمير واحتلال "الملاذ" الموجود داخل كامبوديا، والمسمى"درب هو شي منه" والذي كان عبارة عن تجمع واسع من الطرق والمسارات الممتدة داخل كمبوديا التي عجزت حكومتها التي كانت محايدة في السابق عن السيطرة عليها، والتي كانت القوات الشيوعية والمواد تتحرك عليها متجهة جنوباً لإمداد مقاتلي "الفيت كونج" في فيتنام الجنوبية باحتياجاتهم. بحلول شهر يونيو من ذلك العام، كانت القوات الأميركية قد انسحبت من كمبوديا (بسبب الاحتجاجات الدولية والداخلية في أميركا) ولكن القوات الفيتنامية الجنوبية ظلت هناك، كما استأنفت طائرات بي- 52 الأميركية القاذفة الثقيلة قصفها لتلك المجموعة من الدروب، والذي كان قد بدأ عام 1969. وكانت المحصلة النهائية لتلك العملية هي فشل الغزو، وحدوث تداعيات سياسية وإنسانية لكمبوديا ولفيتنام الجنوبية على حد سواء. وبعد انسحاب القوات البرية الأميركية من جنوب فيتنام، وانتصار القوات الشيوعية، كان الكثيرون ممن انخرطوا في الجدل السياسي الذي ثار في أميركا في ذلك الوقت، يذهبون إلى أن هزيمة فيتنام كانت نتيجة لإخفاق الغزو الأميركي للملاذ الموجود في كمبوديا. في الوقت الراهن تواجه الولايات المتحدة مرة أخرى مشكلة تتعلق بـ"ملاذ" آخر، وذلك في نطاق الحرب التي تخوضها بمساعدة قوات من "الناتو" ضد قوات "طالبان" في أفغانستان فبعد الهزيمة العسكرية التي ألحقتها الولايات المتحدة بحكومة "طالبان" عام 2001، تمكن زعيم هذه الحكومة "الملا محمد عمر" ومعه أسامة بن لادن وأتباعه في تنظيم "القاعدة" من التسلل عبر المنطقة الجبلية الوعرة الواقعة على امتداد الحدود الغربية لدولة باكستان المجاورة، والواقعة تحت سيطرة القبائل التي تعيش في ذلك الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي، والذي لم يتم إخضاعه من قبل سواء بواسطة الحكومة الباكستانية، أو بواسطة الغزاة الأجانب، والذي توجد به في الوقت الراهن قواعد قوات "طالبان" التي تنطلق منها لشن هجمات داخل أفغانستان، والتي توفر في الوقت ذاته ملاذاً لتنظيم "القاعدة". والنجاح الذي حققته عمليات "طالبان" التي تم استئنافها داخل أفغانستان لمواجهة القوات الأميركية وقوات "الناتو"، دفعت أميركا إلى ممارسة المزيد من الضغط على الرئيس الباكستاني "برويز مشرف"، كي يعمل على قمع "طالبان" داخل الحدود الباكستانية، وهو أمر قد يستحيل عليه تحقيقه، بل ويمثل بالنسبة له مشكلة سياسية غاية في الخطورة، بسبب الصعوبات الداخلية المتزايدة التي يجدها في مواجهة التطرف الإسلامي والمتمردين الجهاديين. والمأزق الذي يواجه برويز مشرف، هو أنه سيكون غير مرضي عنه إذا ما فعل ذلك ومغضوباً عليه إذا لم يفعل. وما يفاقم من درجة صعوبة المأزق الماثل أمام الرئيس الباكستاني أن جزءاً من جيشه كان متواطئاً مع "طالبان". والتدخل الأميركي في الشؤون الباكستانية في الوقت الراهن يمثل أكبر مشكلة تواجه مشرف، حيث أثار من ناحية أزمة داخلية كبيرة، من خلال إجباره على القبول بعودة رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو، على أساس أن تلك العودة ستؤدي- كما كان مفترضاً- إلى تحسين الصورة الديمقراطية للبلاد، غير أنها أدت بدلاً من ذلك إلى اغتيالها هي شخصياً، وتأجيل الانتخابات البرلمانية، وإضعاف الديمقراطية بدلاً من تعزيزها. يطالب قادة قوات العمليات الخاصة في الجيش الأميركي الآن حكومتهم، بالاتصال بالحكومة الباكستانية، كي تسمح لقواتهم بالدخول إلى باكستان بصفة مدربين وخبراء، وذلك لتدريب القوات الباكستانية على كيفية شن عملياتها ضد القبائل المتمردة والمصرة على الاحتفاظ باستقلالها عن الحكومة. وهذا الطلب تم تقديمه كما هو ظاهر على أساس افتراض مؤداه أن القوات الأميركية تعرف عن كيفية العمل في مناطق القبائل المتمردة أكثر مما يعرفه الباكستانيون ذاتهم. على الرغم من أنها قد أصبحت مستبعدة الآن، فإنه كانت هناك دوماً اقتراحات في البنتاجون وصحافة الولايات المتحدة مؤداها أن تعمل القوات الخاصة الأميركية ببساطة على تجاهل الحكومة الباكستانية وتدخل إلى منطقة "القبائل"، وتنجز المهمة بنفسها، من خلال إلحاق الهزيمة بقوات "طالبان" على الأرض الباكستانية ذاتها، وإزالة هذا الملاذ الأخير لقوات العدو، الذي يشكل عقبة كأداء أمام تحقيق النصر الأميركي في أفغانستان. والافتراض المطروح في هذا السياق هو أن"الهجوم الأرضي المتواصل" في مناطق "القبائل"، هو وحده القادر على التعامل مع "القاعدة" وأسامة بن لادن (ليس هذا فسحب، بل وكان يُقترح دائماً أن تضع هذه القوات الأميركية يدها على الأسلحة النووية الباكستانية طالما ظلت في ذلك البلد". من الصعب على المرء أن يعتقد أن هناك رجالاً مسؤولين حقاً يمكن أن يقترحوا تنفيذ عمليات عسكرية أميركية في مناطق القبائل، لأن الحقيقة الواضحة في هذا الشأن، هي أن أي قوات عسكرية نظامية لم تحقق نجاحاً هناك في أي وقت من الأوقات. وهناك نقطة أخرى تحول دون ذلك، ألا وهي أن الجيش الأميركي قد وصل الآن إلى آخر حدود إمكانياته العملياتية، حيث يجد نفسه متورطاً في تعقيدات الوضع العراقي غير المطمئن على أي وجه من الوجوه، علاوة على أنه يخوض في ذات الوقت حرباً خاسرة ضد قوات "طالبان" في أفغانستان. على الرغم من رفض المرشحين لخوض انتخابات الرئاسة الأميركية لهذه الفكرة، فمن المرجح أن الرئيس بوش ونائبه تشيني، لا يزالان- ربما- يعتنقان فكرة إنهاء مدة ولايتهما بقصف جوي بغرض شل إيران، ودفعها إلى الانتقام من القوات الأميركية في العراق والخليج العربي. يا لها من تركة ثقيلة تلك التي ترغب الإدارة الحالية في توريثها! إن الناخبين الأميركيين سيفتقرون بالتأكيد إلى الحكمة إذا وثقوا أكثر مما ينبغي بأن الانتخابات التي ستتم في نوفمبر المقبل سوف تضع نهاية هذا الكابوس. ــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"