من هو؟ أو ما هويته؟ وبطاقة الهوية... لا يمرُّ يوم إلا ويُسأل المرء عن هويته، لقضاء أمر أو أداء خدمة. وفي عصر أصبح فيه التنظيم الدقيق لعلاقات البشر السمة الأساسية لحسن تدبير الشؤون العامة والخاصة، كان لا بد من بيان حدود هذه الهوية التي تتجاوز، في الحقيقة، الفردَ لترتسم هويةٌ مجتمعية تتكوَّنُ مع مر التاريخ، لتنسج شبكة الانتماء التي تشكل الحصن الذي يحتمي به الفردُ في الملَمَّات، وفي المقابل يُنتظر منه أن يُبدي لها من الولاء ما يكفي ليستظل بظلها. وتأخذ الهوية مكوناتها من جغرافية البشر والمكان، ومن صفحات التاريخ وما كان من تقلُّب الأمور ورُسوِّها في نهاية المطاف على حالٍ تجمع المشتَرَك بين أصحابها، وإنْ كنا لا نخالُها باقيةً جامدة إلى الأبد، بل هي ماضية تتغذى في طريقها بما يعزز كينونتها ويشد على عناصرها من دين ولغة وغير ذلك، مما انتهى إليه تطور الجماعة واُتفق على أنه الوعاء الرئيس لهويتها وعنوانها. وقد لا تكون الهوية مرتبطة بجغرافية تعبر عنها، ولكنها تكون هوية في أسمى معانيها، عندما تسعى إلى التدثر بجغرافيةٍ مكانية واجتماعية عقائدية معينة تعبر عن ماهيتها في إطار نظام سياسي واجتماعي معين. والهوية الوطنية مرتبطة بوطن موجود أو هناك سعي لإيجاده، وتأتي تعبيراً عن انتماء اجتماعي وسياسي واقتصادي وعقائدي معين أو متعدد، أو حتى مزيج من الانتماءات. وعند محاولة فهم الهوية الوطنية وقياسها والولاء لها في دولة ما، فإننا نكون أمام محاولة تنظيرٍ اجتماعي مهم تثيرُ جدلاً بشأن قياس الولاء للهوية في مفهومها الواسع، وهو أمر صعب لا يتم إلا عند حدوث أزمة تهددها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وحتى جغرافياً، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن هناك محوراً آخرَ مهماً يمكن من خلاله قياس الهوية الوطنية والولاء لها في أي دولة مهما كان حجمها وقوتها. ويتعلق الأمر بالنظر إلى النظام السياسي لأي دولة، وهو أحد أهم المؤسسات الاجتماعية التي تستقبل وتأخذ متطلبات المجتمع بمختلف فئاته ثم تضع الخطط وتنفذها، ويكون هذا عبر السياسة العامة الداخلية والخارجية. ودائماً ما تكون السياسة الداخلية العامة بمختلف مجالاتها من سياسية وصحية وتعليمية ورعاية مصالح هذه الفئة ومراعاة أحوال تلك الفئة محلَّ اهتمام السواد الأعظم من الشعب، غير أن السياسة الخارجية أيضاً تنصب على تعزيز هذه المتطلبات وتحقيقها من خلال العلاقات الدولية الاقتصادية والثقافية والعسكرية، وهو ما يبدو واضحاً في أطر الاعتماد المتبادل بين الدول، وينعكس على الوضع الداخلي بصورة كبيرة، وأرى أن السياسة الخارجية تُتَرجِم بصورة أو بأخرى هذه المتطلبات المختلفة من خلال العلاقات الخارجية، وهي الحاجات التي يقوم النظام بتحقيق ما أمكن منها بما يضعه من سياسات. وتقود هذه العلاقة بين المجتمع والنظام إلى تفاعل بين الطرفين، يسمح بقياس قوة الولاء الوطني. وهنا لا نحمِّل النظام السياسي مهمةَ رسم الولاء الوطني استجابة للمطالب فقط، ذلك أنه ينبغي أولاً التعرف على بيئة النظام السياسي، هل هو دولة حديثة أم تاريخية؟ وهل له قدرة اقتصادية متوسطة أم كبيرة؟ وما هو شكل دولة النظام؟ وما هي طبيعة ووضع التجانس الثقافي؟ فالدولة الغنية مثلاً مطالبة بالكثير، كما أن المتوسطة والفقيرة مطالبتان بمقدار قوتيهما، ولكن، هناك اختلافا في سياسات الدول الداخلية والخارجية مع القوة الاقتصادية والثقافية والعسكرية، كما أن شكل الدول مهم، فالدول الفيدرالية تكون بها سياسات عامة متعددة من خلال الجهات التي تتخذها وترسمها، وهو ما يولد ولاءات متعددة تعكس النظام الفيدرالي بصورته المحلية على حساب الفيدرالية، وذلك بالنظر إلى مدى تدخل الحكومات المحلية والفيدرالية في حياة الأفراد، الذين يتصلون بها بأشكال مختلفة في سياق الخدمات والمصالح، التي يسعون إلى تحقيقها من الهيئات العاملة على أي من مستويات توزيع الصلاحيات في هذا النمط من النظام، وتتصل مباشرة بحقوق وواجبات هؤلاء المواطنين الذين يُنتظر منهم بيانُ الولاء لهويتهم. وإذا كانت الهوية الوطنية تتكون في مراحل مختلفة من عمر الإنسان مشَكلة مجموعة من المشاعر والاتجاهات والانتماءات والمعتقدات العامة والتصورات إضافة إلى الالتزامات الدينية والأيديولوجية مع الأحاسيس الأساسية بحقوق وواجبات الفرد في المجتمع، وتجاه نظامه السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فإنه بإمكان النظام السياسي أن يرسُم درجة معينة من الولاء أو تقوية الهوية الوطنية من خلال البيت الأسري الذي يستطيع دخوله من باب الخدمات والمرافق، ومن خلال وسائل الإعلام التي أصبحت صعبة الترويض بسبب تعددها وتنوعها، ولكن ما زالت وسائل الإعلام الحكومية تهتم بقضايا المجتمع ومتطلباته والصعوبات التي يواجهها من خلال طرحها القرارات والسياسات العامة في هذه الوسائل من صحف وتلفزيون وإذاعة. كما أن النظام السياسي يستطيع التدخل في المقررات الدراسية لغرس الهوية الوطنية فيها وتعضيدها في المدارس الخاصة والحكومية وحتى المراحل الجامعية التي قد يعتقد البعض أنه لا فائدة ترجى من أهلها الذين شبوا عن الطوق. وكثيرة هي المجالات التي يستطيع النظام أن يستغلها لتقوية الهوية الوطنية وتعزيز الولاء فيها لا سيما في المراكز الاجتماعية. وما من شك في أن الهوية الوطنية لا تتحرك في فراغ، ولا تسبح في بحر ساكن، بل إنها تلتقي بهويات أخرى في هذا العالم، ويمكن أن تتصارع معها في ما تحمله من عقائد وثقافات. ومن هنا يبرز محور البيئة العالمية أو الخارجية وانعكاسها على النظام السياسي وعلى السياسات العامة، فالبيئة الخارجية تعيش اليوم ظاهرة العولمة وبروز ظاهرة المدن كجزء منها، فالمدن اليوم تتغير بتغيُّر الفاعلين الدوليين والمحليين، فقد أدت الشركات والمصانع والمصارف وتدفق استثمارات الأموال وحركة التجارة والأيدي العاملة إلى تغيُّر القوة الاقتصادية والمالية والفكرية والمواقع الاقتصادية والتجارية كجزء من الاقتصاد العالمي، والذي بدوره انعكس على السياسات العامة في عدة دول، بحيث أصبحت هذه السياسات تخدم- في جزء منها- هذه الشركات والاستثمارات وفئات داخلية معينة تتفاعل معها، ويصبح ولاءُ هذه الفئات في جزء كبير منه لهوية جديدة ترسمها المتطلبات الخارجية والقدر الذي يخدمها من السياسات العامة، أي أنها تصبح فئة خاصة أو جماعة مصالح معينة. وفي ظل هذه البيئة الخارجية التي تحمل الكثير في عالم يعيش ظاهرة العولمة، ينبغي للسياسات العامة إيجاد معادلة تراعي الهوية الوطنية بين متطلبات المجتمع ومراعاة العولمة، لأنه لا مناص من القول إن هناك تداخلاً بين السياسات الداخلية والخارجية. وفي هذا الصدد لا بد من عدم الوقوع في وطنية، تجعل الهوية تتقوقع، ولا مندوحة من الحذر من عالميةٍ صارخة لا تخدم في تداخلها مع الوضع الداخلي سوى فئات المصالح وجماعات الضغط وفئات أخرى فتعصف بالهوية، وذلك بالنظر إلى ما للعولمة من تأثير متعدد الجوانب يطال أساساً ثقافة الدولة في وعاء هويتها، ألا وهو اللغة. وأخيراً، إذا كانت الهوية الوطنية، هي شبكة الانتماء التي تربط بين مختلف فئات المجتمع، فإن الولاء هو صمام الأمان لها، ومن ثم فإن الأمر يتطلب استراتيجية تنخرط فيها كل هذه الفئات في إطار سياسة عامة يطرحها النظام السياسي تمكِّن من المحافظة على الهوية الوطنية وتصون وعاءها أمام زحف العولمة.