تعودت الأدبيات السائدة في منطقتنا لفترة طويلة، السؤال عما إذا كانت إسرائيل دولة تابعة للغرب: أداة له وللرأسمالية الوحشية، أم كيان له ذاتية ويخطط للبقاء كذلك في "الشرق الأوسط"؟ وطبيعي أنْ كانت أعيننا تقع دائماً على مدى توسع النفوذ الإسرائيلي في العالم الثالث، وعلى مدى قدرتنا على محاصرتها، أو جعلها دولة منبوذة، أو تصويرها حتى كإمبريالية فرعية أي "أداة استعمارية". وبهذا التصوير، يسهل بالطبع الحديث عنها عند دول أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية. ولم يلفت نظر الكثيرين في منطقتنا أن نغمة إسرائيل كدولة شرق أوسطية، لا تجد أى رواج في إسرائيل التي نعرف عن إعلامها وسياستها الكثير الآن... وحتى بعد أن تم تحنيط صاحب مثل هذه الدعوة- شمعون بيريز- في وضعه الصوري كرئيس لهذا الكيان. وفي الفترة الأخيرة، اكتملت ترجمة أجزاء عديدة من خطة إسرائيل 2020 التى نشرها مركز "دراسات الوحدة العربية" مشكوراً، بل ونشر الكثير متناثراً عن تطوير التفكير الاستراتيجي لإسرائيل إلى عام 2050. وفي جدل معمق حول هذا المنتج في ندوة مركز "البحوث العربية والأفريقية" بالقاهرة بالتعاون مع المجلس القومي للثقافة العربية في مطلع يناير 2008، تحاور باحثون معظمهم عرب من جيل الشباب، حول مخططات إسرائيل هذه بتحليل جوانب منها في خمسة عشر بحثاً تكشف عن فهم حقيقي للمخططات الإسرائيلية والصهيونية. وقد أتيح لي مراجعة كثير من الأوراق بل والأجزاء المنشورة باحثاً عن مكان العالم الثالث الذي اهتم شخصياً بأخباره في مثل هذا المخطط الإسرائيلي. كنت مدفوعاً بما يسألني فيه شباب الإعلاميين دائماً عن "النشاط الإسرائيلي في أفريقيا"، و"استراتيجية إسرائيل تجاه دارفور، أو تجاه جنوب السودان أو حتى تجاه آسيا. الخ، وحاولت أن أشاركهم محاولة تعميق "الفذلكة" حول هذه الموضوعات بمعرفة معالجة استراتيجية إسرائيل 2050. للتساؤلات حول الدولة المنبوذة والدولة الأداة للإمبريالية! ويؤسفني أن أعلن لأصدقائي في أجهزة الإعلام العربية أن إسرائيل لا تهتم كثيراً بعوالمكم المتواضعة هذه! وإمعاناً في صدمة الأصدقاء أسبق بقية المقال بالقول:إنه على طول أكثر من ألف صفحة من الخطط المنشورة المترجمة، لا يهتم المخططون، وهم علماء ومهندسون، بل وفنانون وفلاسفة حضارة، وقيادات مجتمع مدني، لا نجد في الكتابات الإسرائيلية ما يشير إلا لماماً لهذه العوالم "المتواضعة"، في مقارنتها للواقع، أو تخطيطها للمستقبل. وقد أسارع بتعميق الصدمة، لو قلت للأصدقاء إن الخطط المكتوبة، تتجنب الحديث عن وضع الدول الوسيطة التى تكاد أن تصبح كبرى مثل الهند أو البرازيل، وإنما تركز النصوص على بحث مكانة إسرائيل بين ما تسميه "الدول المتقدمة"، التي لا تذكر في مئات الصفحات عند المخطط الإسرائيلي دول "الاتحاد الأوروبي" مثلاً، فهذه أصبحت تضم التشيك والسلوفاك وأمثالهما. وإنما تقارن الخطة طول الوقت بالدول المحور في التقدم الغربي، وهي دول "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD"، وهى دول التقدم الحقيقي في قلب "الغرب"! لا تسعى إسرائيل إذن أن تكون دولة وسيطة أو من الدول الوسطى في قلب عملية التقدم الدولية، ولا أن تبني مستقبلها فقط على دور تابع أو وسيط أو شرق أوسطي، وإنما تذكر بالنص أن "هذا التطوير لاختصار الطريق نحو العالم ما بعد الصناعي، دون المرور بالضرورة بجميع المراحل الانتقالية لهذا لعالم بمساوئه وأضراره"، ولكي يتحقق ذلك لابد من "تقليص هوات التطوير في مجالات الاقتصاد والمجتمع والبنية التحتية والبيئة". (ويلاحظ القارئ دائماً تلازم وضع المجتمع، والبيئة) ضمن عملية التطوير الرئيسية، وفي الجزء الرابع المنشور مثلاً يٌشار إلى "أن علاقات إسرائيل الاقتصادية مع الدول المتطورة، ستكون خاضعة لصيغة:السلام والهدوء في منطقتنا، هما شرط لتطوير علاقات اقتصادية مع الغرب... حيث يتوقع حصول تغيير سياسي نفسي في النظرة الدولية لإسرائيل، التي كانت تُصنف الدولة العبرية كدولة خطرة، وهذا التغيير (المنتظر)، سيشجع المستثمرين الأجانب على توظيف أموالهم في إسرائيل". في ندوتنا برزت بدايات وعي جديد، أو قل مختلف عن السائد حول وعي إسرائيل بذاتها (أحمد البرقاوي)، أو التصاعد النوعي في اقتصاديات إسرائيل وليست كمجرد دولة تابعة (منير الحمش)، كما ظهر الجهد الذاتي الذي ينمو فلكياً في العلوم والتكنولوجيا (بهاء شعبان...) أو ارتباط كل ذلك بمفهوم "القوة" في الفكر الصهيوني نفسه (عماد جاد)، وغيرهم والحق برعوا في هذه الالتفاتة المهمة بعد قراءة مدققة للاستراتيجية الصهيونية المنشورة (مدحت أيوب). وبرز عندئذ التساؤل: هل علينا أن نصاب بالرعب فلا نفعل شيئا؟ لكن التقرير الذي قدم عن طبيعة المواجهة العربية خلال ثلاثين عاماً (محسن عوض)، كان يحيل إلى إحساس بعدم غياب الوعي الجماهيري العربي من جهة، بينما يبدو غياب السلطة العربية الحاكمة عن هذا الدور مفزعاً. ولم تنجح محاولات التذكير بدور التوحد العربي أولاً في مواجهة احباطات عالية من الموقف العربي. لم أجد من جانبي ما أتدخل به حول ضرورة استمرار العمل العربي أولاً لمحاصرة إسرائيل في عوالم التوسع المحتملة في أفريقيا وآسيا! كان في ذهني ما نقوم به من تحليلات في هذه الفترة للسياسة الناصرية تجاه العالم الثالث (أفريقي وآسيوي خاصة) والنجاح الجماهيري على الأقل في محاصرة الناصرية لإسرائيل. كان ذلك بمناسبة احتفالات الذكرى التسعين لميلاد عبد الناصر، والذي احتفي بها هذا العام على نطاق واسع في مصر (ولا أدري لماذا إلا لتطلع الجماهير العربية إلى دور يفتقدونه أمام الوحشية الإسرائيلية تحديداً، حيث وحشية أميركا أو العولمة ليست طارئة! وكنت في ترددي أشير إلى أنه يجب أن نتوقف عن الحديث عن النشاط الإسرائيلي هنا وهنالك بهذه الجزئيات التي تتردد، حول دارفور أو الصومال أو كينيا، بما لم يعد لائقاً للتفكير في إطار العولمة، ومركز إسرائيل الكبير في مؤسسات العولمة الكبرى (البنك الدولي وصندوق النقد واللوبيات الأميركية... الخ. فالمسألة تحتاج إلى فكر استراتيجي عربي بعيد المدى، لا يرتعش أمام الجزئيات، كما أنه لابد أن يتوقف عن أفكار عزل إسرائيل، أو أنها مجرد إمبريالية تابعة! بدت محاولات إنقاذ المعنويات في الندوة متعددة الأبعاد، لكن محورها كان عن بناء الذات العربية، وطرحت أفكار عن جبهة بلدان الجنوب "والدور العربي" فيها، وعن الروح الاستقلالية عموماً، والتي يجب أن تحركها النخب والمنظمات الشعبية...الخ. وهنا بدا تدخل مفكر بوزن سمير أمين ملخصاً للفكر الاستراتيجي الواجب أمام ما نناقشه من استراتيجيات إسرائيلية. عبّرَ سمير أمين بحدة شديدة قائلاً:"إننا يا جماعة أمام مشروع متكامل يُسمى استراتيجية إسرائيلية، بينما نفتقد على المستوى العربي العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والثقافية لبناء المشروع العربي البديل. لقد شرعنا في ذلك فترة بمحاولات سابقة، أُجهضت بسبب عدم مقرطتها شعبياً لفترة، ثم الإجهاز عليها لعدم عدالتها الاجتماعية لاحقاً وإزاء ذلك يصعب التفكير في مواجهة حقيقية...". وهنا انسحب أمثالي من المتحدثين عن مكانتنا في العالم الثالث... ناهيك عن المقارنة بمكانة إسرائيل.