عليك في أقرب فرصة ممكنة أن تعيد قراءة الرواية الشهيرة التي تحمل عنوان (1984) التي خطتها أنامل الكاتب جورج أورويل · بعدئذ اقذف هاتفك المحمول وحطّمه إلى شظايا صغيرة، ثم ضع الشظايا في كيس ورقي وأضرم النار فيه. لكن البعض منا قد يعمدون إلى التصرفات ذاتها بعد أن يفرغوا من قراءة الكتاب الجديد المثير الذي أبدعه كريستيان بارينتي وخرج من المطابع يوم 2 سبتمبر بعنوان القفص الناعم: المراقبة في أميركا-من جوازات العبيد إلى الحرب على الإرهاب . ومن هو بارينتي ؟ إنه مؤرخ وصحافي أميركي ومؤلف كتاب حظي بإقبال واسع من القراء في أميركا وغيرها وهو بعنوان أميركا الحبس: البوليس والسجون في عصر الأزمة ، وصدر في عام ،1999 وقد أتى بمضمون يدل عليه العنوان كل الدلالة ويقترب من موضوع الكتاب الذي نتطرق إليه هنا. لكن بارينتي ضرب بكتابه الجديد هذا وتراً حساساً آخر من أوتار القضايا السياسية-الاجتماعية حيث قدم لنا في صفحاته تحليلاً لثقافة المراقبة التي تسود أميركا في الوقت الراهن. اسمعوا ما يقول المؤلف في بداية الكتاب: فكروا في الأمر التالي: أكثر من 111 مليون أميركي يحملون هواتف خليوية كل منها ينشئ بياناً إليكترونياً تقريبياً لموقع المستخدم في الزمان والمكان · إنها تفاصيل قليلة لا تنطوي على أي ضرر، أليس كذلك؟ لا، ذلك كلام غير دقيق تمام الدقة: ففي السنة الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اشتعلت في الأراضي المحتلة، نفذت الحكومة الاسرائيلية عمليات اغتيال استهدفت ستة من أعضاء الميليشيات الفلسطينية المسلحة وذلك بتحديد موقع الهاتف الخليوي الذي يحمله الشخص المستهدف ثم بتوجيه النيران إلى إحداثيات الهاتف ، كما قال بارينتي .
لكن الهواتف الخليوية أو المحمولة أو الجوالة -سمها بما شئت من الأسماء-ليست إلاّ مثالاً واحداً على مدى سهولة تعقبنا جميعاً على مدار الساعة من خلال الوسائل المتقدمة التي قامت وتقوم التكنولوجيا الحديثة بتفريخها. أجل، هناك الكثير في الجعبة، وهيا إلى العد: هناك بطاقات الاعتماد وحسابات اشتراك الانترنت وعضوية واشتراكات نوادي وصالات الرياضة واللياقة البدنية وبطاقات الاشتراك في المكتبات العامة وسجلات التأمين الصحي وبطاقات الهوية الخاصة بمكان العمل. وهذه أيضاً ليست إلا غيضاً من فيض الوسائل التكنولوجية الروتينية التي تسجل التحركات اليومية التي يقوم بها الشخص هذه الأيام وتحصي عليه أنفاسه. وبإلقاء نظرة فاحصة في مسألة العبيد والرق في أميركا، يشرح بارينتي بالأمثلة الإيضاحية كيف بدأ هذا النموذج منذ قرون مضت، إذ أن أميركا بذلت محاولات يائسة ومستميتة لتحقيق إمكانية تعقب كل واحد من العبيد الأفارقة بالاستعانة بإجراءات كالدوريات وجوازات المرور.
وفي نيويورك كانت بداية عملية استحداث دوائر الشرطة التي يجري فيها العمل بدوام كامل، حيث شكل إنشاء أول دائرة شرطة هناك في عام 1845 علامة بارزة في سياق توسيع نطاق نظام المراقبة الذي تبنته أميركا. وقد استعانت دوائر الشرطة تلك ببصمات الأصابع والصور الفوتوغرافية لتعقب المجرمين وأرست في سياق العملية أسس وقواعد النظام الحالي المعني بالمراقبة الجماهيرية الشاملة الجارية الآن في الولايات المتحدة.
وقد أفرد المؤلف عدداً من الفصول المستقلة الخاصة من كتاب القفص الناعم للتركيز على الموضوعات الخاصة التي من الممكن أن تكون كتباً كاملة في حد ذاتها. ويأتي الفصل الذي حمل عنوان أرض الكاميرات: جماليات الأمن والأماكن العامة ليقدم مناقشة مثيرة وافية لمسألة تكاثر وانتشار الكاميرات وآلات التصوير التي يبدو أنها تراقب الأماكن العامة كلها دون استثاء؛ ويقول بارينتي في هذا الفصل إن ترتيباً كهذا كان له تأثير كبير في الديمقراطية أدى إلى تآكلها . ويقدم بارينتي أيضاً تحليلاً لأعمال المراقبة الجاري تنفيذها في نظام الرفاه الاجتماعي ومن خلال الاقتصاد الذي أدى فيه تكاثر وانتشار النقود الرقمية (بطاقات الاعتماد وبطاقات الدائن) إلى التسبب في توسيع لم يحظ بالفحص لسلطة وقوة الدولة والانضباط الاجتماعي · ويقدم المؤلف في أواخر الكتاب مناقشة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويعرض فيها للمعركة الراهنة الدائرة في الولايات المتحدة الأميركية حول الخصوصية وحول الحريات المدنية والأمن والإجراءات الأمنية؛ وفي هذا السياق يؤكد بارينتي على حقيقة مهمة ويقول: إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم ينتج عنها تمزق تقني أو قانوني في البنية التحتية النامية الخاصة بعمليات المراقبة اليومية...غير أنها أدت إلى تسريع جذري للزخم الدافع نحو القفص الناعم الموجود في مجتمع المراقبة · ويوضح بارينتي غاية الإيضاح أن عمليات المراقبة الروتينية التي تستهدف النشاطات اليومية لـ(الناس) كانت آخذة في التوسع بسرعة عالية، حتى قبل وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، لكنه على رغم ذلك يزعم أن الرعب الذي اكتسح الدنيا في ذلك اليوم قد تعرض للمصادرة ، لا بل إنه وقع رهن الاختطاف على يد العناصر الأشد سوءاً في الطبقة السياسية،