في فنادق دول الخليج هناك سائحون ومتبضِّعون كُثر هذه الأيام، ولكنك ستلحظ بالتأكيد أُناساً يلبسون البدلات الغربية السوداء والرمادية ومعهم حقائب عمل فيها كثير من الملفات والأوراق المصقولة التي تحوي مؤشرات وعروض استثمارات مختلفة عائدة لبنوك عالمية ونصف عالمية ولمؤسسات مالية دولية ونصف دولية. وإلى جانب هؤلاء ستجد رجالاً ونساء يماثلون المذكورين سابقاً في الهيئة والملبس، والاختلاف بين الفئتين أن أفراد الثانية منها يحملون في حقائبهم أوراقاً غير مصقولة فيها أسطر كثيرة تحوي نصائح وإرشادات وتوصيات، توزع وتلقى في ندوات -أو منتديات- وجلسات عمل من التي تعقد بكثرة في خليجنا الذي وصل سعر برميل زيته الوسطي إلى حدود الثمانين دولاراً. زائرونا الأفاضل لم يفرضوا أنفسهم علينا بالطبع، بل أتوا تلبية لدعوات من مضيفيهم الخليجيين، وفي المقابل يجب الاعتراف بأن أكثر الناس من العامة في منطقتنا يجهلون الفوارق بين منتدى اقتصادي هنا أو هناك وفي إقليم لا يتجاوز السفر بين أقطاره في أطول الرحلات البينية الساعة ونصف الساعة؛ والعامة -أو العوام عند أهل اللغة- مثلي، يجهلون كذلك فائدة هذه المنتديات التي يصرف عليها ببذخ واضح، ويأخذ المتحدثون فيها من العجم والروم وبلاد الجنس الأصفر المبالغ الطائلة مقابل ساعة أو نصف ساعة من التوصيات والنصائح المشابهة في كل عام. هناك تشابه بين فئات رجال الأعمال والمتحدثين الحكماء في منتدياتنا الاقتصادية الخليجية، إنهم يعتبرون بلداننا الخليجية قاصرة في فهم إدارة تلك الموارد الهائلة الآتية من بيع البترول الخام، وهم يحذرون من تفاقم التضخم في بلادنا إن بقيت تلك الثروات سائلة متراكمة في بنوكنا أو في أسواقنا أو حتى في بنود مشاريعنا الضرورية؛ هم يقترحون نزوح هذه الأموال لتضخ في عروق اقتصادهم الذي يواجه أزمات يخترعونها في كل حين: رهن عقاري... وإن لم يكن فاختلاس مصرفي بالمليارات، وإن لم يحدث هذا أو ذاك فكساد يُنذر بالويل والثبور في أهم البلدان الصناعية ومن ثم فالعاقبة سيئة ووخيمة على الاقتصاد الكلي، ومن ثم على استهلاك البترول والاستثمارات المتأتية منه.. والحل؟ تدار هذه الثروات التي يحصل عليها الذين عانوا من الجوع في قديم الزمان وسيعانون من العطش في قادم الأيام.. هناك حيث الخبرة والتفرد والإبداع الاستثماري مع الحذر من الصناديق السيادية التي يمكن أن تكون لها أهداف سياسية! ومن باب الإنصاف القول إنه ليست كل المحاضرات والاجتماعات يدور فيها مثل ما نقوله آنفاً، فهناك ندوات تحاضر على منابرها عقول اقتصادية فذة تعطي خلاصة تجاربها التي بنت اقتصاديات أوطانها. من حيث قيمة هذه المحاضرات فهي قيمة بلاشك، لكن تعميم التجارب الإنسانية وجعلها مستنسخة هو خطأ كبير، فلا يمكن أن نقارن بين (سنغافورة) مثلاً، تلك الجزيرة الهادئة والمحوطة بسلام من الجيران والتي أرادها العالم مكاناً آمناً مبدعاً ومثالاً على تعايش الأعراق وكدحها المنتج، بأحد بلداننا الخليجية والمهدد داخلياً بالإرهاب البشع وبجيران يحشدون القنابل النووية وآلاف الانتحاريين وبوسائل تُغيّر وجه المنطقة كما يصرحون عياناً أو بواسطة مندوبيهم الكُثر في الجوار أو في المجال الحيوي للخليج. هذه الدول الخليجية وأخواتها تقتطع بنود التسلح والأمن الجزء الكبير من ميزانياتها ودخلها الوحيد غير المتجدد، وموردها بخصائصه المتفردة نعمة كبيرة ونقمة أكبر في ذات الوقت، فهو كلما تعالى سعره قلت الرغبات في الإصلاح الاقتصادي الضروري والتنوع المطلوب في المداخيل، ورأسمالها البشري ضعيف وهزيل والاستثمار فيه لا يوازي التطلعات الكبيرة والواسعة للشعوب والقادة؛ لهذا سيستهل المشرفون على اقتصاديات بلدان الخليج الاستثمار في السندات الحكومية الدولية وفي شراء العقارات والأصول الرأسمالية وأسهم البنوك والمؤسسات المتعثرة، ولهذا أيضاً يكثر زائرونا هذه الأيام الذين يريدون قطعة من كعكة المداخيل البترولية المنذرة -حسب اعتقادهم- للبلدان صاحبة الثروات الطارئة بأنها مجرد (كُرة تضخم) لديهم، ولئلا تكبر ولا يستطيع أحدٌ دفع شرها والسيطرة عليها قبل أن تدهس الجميع، فلابد أن ترحل الكتلة الأكبر من هذه الكرة إلى حيث لا تذوب ولا تختفي ولا تضُر! ... هكذا يدعون وهكذا يحدث وسيحدث، ما لم يتحول الفكر الاقتصادي الاستراتيجي هنا في بلداننا الخليجية نحو الاستثمار في الإنسان الخليجي، وإلى مزيد من التوحد بين دول المنظومة الخليجية حتى يمكن بناء أرضية استثمارية تُسقى من خيرات الذهب الأسود، الذي لا نعرف متى وكيف مستقبله؟ أما الناصحون لبلداننا من خلال نقل تجاربهم الشخصية وتجارب بلادهم، فألف شكر لهم وعلينا أخذ خلاصة خبراتهم على محمل الجد، لكن علينا أيضاً أن نصنع نموذجنا بأنفسنا، فالاختلافات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كبيرة بين بلداننا وتلك القصيَّة في شرق الأرض وغربها. ... إليكم ما حدث في أحد المنتديات التي عقدت في العاصمة الثانية لدولة خليجية محورية: نجم المنتدى يواصل حديثه عن تجاربه وكيفية وصول بلده إلى مستواه الاقتصادي المتميز في العقود الأخيرة، عندما قاطعته إحدى الحاضرات -بدون مناسبة- لتسأله لو أنه من بلد هذه المرأة فماذا سيصنع لصهر المرأة في سوق العمل المحلي؟! من حضر المنتدى يذكر أن النجم الاقتصادي لم يتوقف في حياته للإجابة على سؤال مثلما فعل ومعه وقت طويل من التفكير، أما السبب لكل التنهُّدات التي سمعها الحضور قبل إجابة الخبير الكبير فهو معرفته أن وضع المرأة في بلاده يختلف عن وضعها في بلداننا، وانصهار الأعراق ونبذ الخلافات التاريخية داخل مجتمعاته لا يماثل ما يحدث في منطقتنا حيث لا يزال يُردد ما حدث في معارك حدثت قبل ألف وأربعمائة عام من الآن! ... عفواً: أريد أن أنهي هذا المقال بسرعة لحضور ندوة عن فرص الاستثمار العقاري والسياحي في جزيرة فيجي!!