ليس ثمة إحساس سوى الشعور بالفجيعة المطبقة عند قراءة بعض التعليقات المدهشة (من القرّاء) على خبر رحيل القائد الفلسطيني الكبير والمناضل النقي جورج حبش. وهي تعليقات وردت في أهم المواقع الإخبارية العربية في ذيل خبر وفاته مؤخراً, حيث المواقع الإخبارية الحالية في غالبها توفر آلية "التفاعلية" مع القراء بحيث يصير بإمكانهم كتابة ما يشاؤون تأييداً أو معارضة أو تعليقاً على ما يقرؤونه. الشيء المحزن والمدهش والمثير للرعب أن يتبارى كثير من الناس في "حرمان وتحريم" إطلاق الترحم على الشهيد, وهم في أغلبهم من الشبان الذين ولّدهم مناخ التعصُّب الذي صار يأكل أخضر مجتمعاتنا ويقضي على أجمل ما فيها. وهم أيضاً وربما في غالبيتهم ما كانوا قد ولدوا عندما كان الشهيد منخرطاً ومنذ بدايات عمره في النضال الفلسطيني, قائداً ومنظماً ومنظراً. إذ عندما كان في مثل أعمارهم كان قد أسس تنظيمات وسبر غور نظريات وحول مسارات كاملة في مسيرة النضال الفلسطيني. لكن هؤلاء وفي هذا الزمن المظلم وقعوا أسارى ضيق الأفق, وصارت كل عدتهم الفكرية هي ثقافة التحريم والبطش الفكري, ويتمنطقون بالمنطق الببغاوي المجهض للعقل قائلين: "لقد مات كافراً, ولا تجوز الرحمة عليه"! صارت لدينا أجيال عريضة من الرواد الدائمين لمواقع لا تعد ولا تحصى على الإنترنت تضج بالعفن الأصولي الذي يعزز هو الآخر ثقافة التكفير والإقصاء والعنف الفكري بل وتشجيع العنف الجسدي أيضاً. وفي حالات كثيرة جداً تكشف آلية السماح للقراء بإبداء التعليق على الأخبار والمقالات في المواقع الإلكترونية بؤس الوضع الثقافي, وحدة التطرف والإقصاء وانعدام معنى الإقرار بوجود فكرة مخالفة, أو حتى شخص مخالف, لجهة الموقف, أو الدين, أو الانتماء. يتحول "القرّاء" إلى حملة سيوف تقص الرؤوس, لا أقلام تناقش الأفكار. فليس هناك أي اشتغال عقلي أو جهد ذهني في الغالبيات الكاسحة لما يكتبه القراء والمعلقون على ما يقرؤون, بل هروب سريع إلى خزنة الشتائم والتقعُّر فيها, تفسيقاً, أو تكفيراً, أو تخويناً, بحسب القضية المكتوب عنها, وبحسب الكاتب. ما تم التعليق به من قبل كثيرين على رحيل رجل بقامة جورج حبش, الذي أصاب وأخطأ ولا يقدسه حتى أفراد تنظيمه، ولا ينزهونه عن مواقف أو قرارات خاطئة هنا أو هناك, يجب أن يصدم ضميرنا الجمعي, والوطني, والأخلاقي, والديني. إنه ناقوس خطر إضافي يدق على وعينا، ويشير إلى أننا نسير في عملية تفتت اجتماعي وانشطارات مدمرة لا تعبأ بالتوافقات التاريخية والعرفية التي شكلت لقرون طويلة بنية متينة من التسامح والتعايش الذي مكن هذه المنطقة وأهلها من دوام التفاخر بعيش أقلياتها بأمن وسلام وتواؤم مع غالبياتها. لو كان المناخ المتعصِّب والأصولي الذي يرخي أثقاله على فضائنا اليوم هو الذي ساد في قرون خالية, لما دخل التاريخ الإنساني أي عصر مزدهر منسوب للعرب والمسلمين. ومن حسن حظ تاريخنا ومجتمعاته في دهور تقدمه أن أصولييه ظلوا أقلية ولم يتمكنوا من سحق مناخات الانفتاح فيه. أصوليو حقبتنا المظلمة تمكنوا من المناخ العام، وفرضوا عليه أدبيات وسلوكيات وخطابات تقود هذه المجتمعات نحو هاوية طالبانية محتمة. واستباقاً لأي تأفُّف متوقع يقوم على مظنة انتقائية الكاتب للتعليقات التي سترد أدناه، وبكونها غير ممثلة للمناخ المأزوم والمسمم الذي يحكم قبضته علينا أكثر فأكثر, تكفي الإشارة إلى أن نسبة هذه التعليقات البائسة من مجمل تعليقات من أبدوا تعليقاتهم في المواقع الإخبارية التي تسنى لكاتب هذه السطور الاطلاع عليها لا تقل عن 30 في المئة, أي أنها ليست "أقلية" عابرة. ولنا أن نتذكر أن من يمتلك القدرة التقنية والتعليمية لمتابعة المواقع الإخبارية ثم التعليق عليها يكون افتراضاً من "النخبة المتعلمة", أي أن نسبة الـ30 في المئة ربما تتضاعف خارج إطار تلك "النخبة" وفي وسط "عامة الناس". إضافة إلى ذلك لنا أن نفترض أيضاً أن نسبة أخرى أحجمت عن إبداء رأيها المشابه لرأي نسبة الـ30 في المئة بسبب موقف ورهبة الموت, وشدتها بقايا مروءة أو احترام للموقف, لكن جوهر رأيها سيجد أكثر من طريقة للتعبير في "وضع عادي". ولنتأمل الآن بعض تلك التعليقات. يقول أحدهم "إن قولهم جورج حبش يشيَّع إلى مثواه الأخير هو كفر لفظي, فإن القبر ليس المثوى الأخير له, وإنما الآخرة", ويقول آخر "لا تقولوا الله يرحمه فهو كافر", ويقول ثالث: "نصراني ومؤسس لتنظيم شيوعي ماذا يكون مصيره يعني؟", ويتساءل رابع: "سؤال للذين يترحَّمون على الرجل, هل جورج حبش مسلم؟", ويستنكر خامس: "ما لكم يا أمة الإسلام تطلبون الرحمة لرجل مات على النصرانية ومن مات على غير الإسلام فهو كافر, عجبي من بعض الردود التي تطلب له المغفرة والرحمة وإسكانه الفردوس الأعلى وغيره من الأدعية, الرجاء الانتباه", ويسأل سادس يعرف نفسه بـ"واحد من الناس": "هل يجوز الترحُّم على مسيحي؟", ويفسر سابع ويقول: "الذين يترحمون على هذا الرجل أظنهم مسيحيين وإلا فإن المسلم لا يجوز له أن يترحم على الكافر مهما عمل من عمل صالح في الدنيا", وأقصى ما يصل إليه معلق ثامن هو القول: "كل التقدير والاعتزاز للقائد المناضل جورج حبش، ولكن الرحمة لا تجوز إلا على المسلم", وقريباً منه يعلق تاسع: "مع تقديرنا لإخلاصه وكفاحه من أجل فلسطين، ولكن لا تجوز الرحمة على نصراني... هذا دين ولا يجب أن نجامل فيه", لكن معلقاً آخر لا يترك مجالاً حتى للتقدير ويقول: "أكثر ما عُرف عنه أنه كان خادماً للشيوعية ومسيحياً لا يجوز الترحم عليه، ولم يخدم فلسطين بشيء إلا بمواجهات راح ضحيتها الشعب الفلسطيني". ومرة أخرى هذه التعليقات مأخوذة من مواقع إلكترونية إخبارية رصينة وليست من مواقع أصوليين, وهذا هو المخيف فيها. وهي أيضاً لا تناقش مواقف الراحل أو تعبر عن اختلاف معه في منهجه السياسي أو الفكري أو تحمله مسؤولية إخفاق هنا أو هناك, وهذا كله لو كان لما كان ثمة منطق لهذه المقالة. لكنها كلها مهووسة بدينه ومصيره وعدم جواز الرحمة عليه! أي أنها تعكس جزءاً من المناخ العام, من الثقافة الطاغية التي تقولبت في العقود الأخيرة وفق مناهج حادة, ورؤى غير متسامحة. وليس هذا فحسب بل إن فقرها المعرفي وتصحر الخلفيات التي انطلقت منها يجعلها تتطاول أيضاً على الأوليات العقدية الإسلامية التي تزعم أنها تدافع عنها, فهي وأصحابها يسرعون للقفز على بوابات الرحمة والعذاب, فيقررون نيابة عن الخالق مآلات الخلق, يدخلون من شاءوا الجنة, ويلقون بمن شاءوا في الجحيم. لا يتوقفون عند خيارهم البخيل الرافض إطلاق أقل القليل من حسن الكلام إزاء الأموات وطلب الرحمة لهم جميعاً, بل يستبد بهم الغضب والنقمة على آخرين لم يجاروهم بخلاً وصفاقة, فينكرون عليهم انسجامهم مع تقاليد عريقة ودفء جميل هنا وهناك ما زال يقاوم البشاعة ويعبر عن ضمير تاريخي يُراد له أن يُستأصل.