كنت في الأسبوع الماضي أزور عاصمة عربية كبيرة محورية، اخترت هناك فندقاً يتوسط -تقريباً- بين المطار ومركز المدينة. وخلال الأربعة الأيام التي قضيتها هناك اضطرتني ظروف عملية أن أتنقل ما بين مقر إقامتي ومؤسسات الدولة ومراكز القطاع الخاص في وسط البلد؛ ولا أبالغ إن أنا قلت إن نصف الـ96 ساعة التي مرت عليَّ في تلك العاصمة قضيته في السيارة التي أقلتني من وإلى فندقي، بعد خصم ساعات النوم والأكل والاستحمام و(سويعات) من العمل الجاد! عشتُ أنا ومن معي ساعات طويلة من العذاب والتململ والإحباط لقطع الأميال القليلة -حيث وجهتنا- داخل سيارتنا التي كانت تزحف زحفاً، وتتحاشى بكل حذر التلامس مع العربات الأخرى التي لا تقل عن واسطة مواصلاتنا إعاقةً حركية وتكراراً للتوقف الطويل بسبب... وبدون سبب. سألت السائق إن كان يومنا ذاك استثنائياً، أم أن ساعات العذاب تتكرر يومياً؟ أجابني السائق وهو يبتسم:"ما تراه الآن هو الأفضل قياساً بالأيام السابقة... الحمد لله على قضائه!". ... وبدأت أَعدُّ: يعمل الإنسان في هذا البلد كما البلاد العربية الأخرى -افتراضاً- 300 يوم في السنة بعد خصم الإجازة السنوية للموظف وإجازات العطل الرسمية بمناسبة الأعياد الدينية والأعياد غير الدينية، إضافةً للإجازات المرضية الصحية وغير الصحية. في اليوم الواحد يفترض أن يعمل الموظف ما بين 6 إلى 8 ساعات، وحسب آخر الإحصائيات فإن إنتاج الموظف العربي يصل إلى النصف أو أقل مما يفترض أن يعمل ليحصل على راتبه الشهري، وبهذا فإن إنتاجه الفعلي -مع التحفُّظ- لا يتعدى 4 ساعات، وفي المقابل يقضي الموظف ساعتين -مع التحفُّظ أيضاً- في ذهابه وإيابه بواسطة المواصلات العامة أو الخاصة... هكذا تبلغ الحسبة: 8 ساعات مفترضة للعمل تُختزل منها 4 ساعات إنتاج فعلي إن لم يكن أقل، وتذهب منها ساعتان داخل وسيلة الانتقال من وإلى مقر عمله وسكناه. عندما عرضت هذه (الحسبة) على المختصين في علوم هدر الإنتاج والطاقة والصبر أفادوني بأن حسبتي لم يحالفها التوفيق إلا في الرقم الأول! وذلك أن الموظف العربي لا يعمل أصلاً إلاّ ساعة من نهاره العملي أولاً، وثانياً: لأن رحلة العذاب اليومية تأخذ منه أكثر مما ورد في معادلاتي الخائبة! الأكيد أن أغلب العواصم العربية تعاني مثل العاصمة التي كنت أزورها قبل أيام، فأزمات انسداد الشريان التاجي في طرقها واضحة ولا تحتاج إلى أشعة، وارتفاع الضغط لمستخدمي شوارعها بسبب التكدس السكاني وغياب التخطيط الصحيح واضح بدون (دكاترة) كشف وقياس. كل شيء في مدينة واحدة من بلادنا العربية... هناك في العاصمة: حيث البنوك والمستشفيات والمطاعم والأسواق التجارية والمدارس والجامعات، وقبل ذلك المؤسسات والوزارات الحكومية. منذ تباشير الصباح الأولى تزحف ملايين العربات من أطراف العواصم العربية إلى حيث المنتصف وما حوله لمراجعة مستشفى أو متابعة معاملة لم تنتهِ منذ سنوات عديدة، أو لتقديم طلب التحاق في وظيفة يتنافس عليها الآلاف، كل ذلك يحدث في مدينة واحدة، وتبقى المدن الأخرى مهمشة عدا مراكز عمل استقطابية متناثرة هنا وهناك. زرت أرياف بعض الدول العربية، ووجدت أن أكثر السكان هم عجائز من الجنسين، وأن الشباب عملة نادرة هناك.. ماذا سيعمل الشباب وكل شيء في هذه المناطق متوقف، وحيث الركود الاقتصادي وندرة العمل ومصادر الرزق؟! إن الشباب بالتأكيد سيرحل تجاه المركز: فهناك الحلم برزق قد يدخله إلى العالم الذي يراه في التلفاز، إلى حيث المقاهي والمطاعم التي يشاهدها ويسمع عنها، ومدفوعاً برغبته في رؤية الأسواق التي يتمتع -فقط- بعروضها الاستهلاكية المغرية، وإلى من يقف بجوار تلك (الفترينات) من الصبايا والشابات! كل تلك الأحلام ومن يحققها فعلاً أو يفشل في ترجمتها، كل تلك الكتل من النقد والمصالح والعروض الحقيقية والكاذبة، تجذب كُتلاً بشرية مقابلة لا تجد إلا العواصم مكاناً للنجاح... أو الفشل. السكان الأصليون الذين كانوا يسكنون منذ نصف قرن مضى دمشق أو الرياض أو القاهرة أو الجزائر أو عمان أو تونس أو الخرطوم أو أبوظبي ودبي، لا يمثلون الآن نسبة 10% من سكان تلك المدن والعواصم الكبرى الذين يتكدسون في كيلومترات معدودة. ولو أتيت في صباح يوم باكر بالطائرة إلى إحدى تلك العواصم لرأيت غمامة رمادية مكونة من الدخان والغبار وجزيئات ملونة أخرى مختلفة تظلل هامات عواصمنا ومدننا العربية الكبرى، والجميع يعيش في أزمات حيوية طاحنة، نحن لا نطالب بـ(ترف) البيئة الصحية، لكن ننادي -فقط- بشيء من التوازن بين عواصمنا العربية والمدن الأخرى في داخل الدولة نفسها. لماذا لا تكون اللاذقية أو حمص هي (مدينة) الثقافة العربية بدلاً من دمشق؟! ولماذا لا يعقد مهرجان السينما في مصر بالإسكندرية بدلاً من القاهرة؟ ولماذا لا تشهد رأس الخيمة فعاليات معرض الكتاب بدلاً من الشارقة؟ وتعرض السيارات الجديدة في أم القيوين بدلاً من دبي؟ ولماذا لا تعقد قمة "أوبك" في الخبر أو الدمام بدلاً من الرياض؟ ولماذا لا يكون منتدى دافوس في العقبة بدلاً من فنادق البحر الميت التي لابد أن يمر ضيوفها بمطار وشوارع عمان أولاً؟ ولماذا لا تعقد اجتماعات المصالحة بمختلف أنواعها في تعز وعدن بدلاً من صنعاء؟! أسئلة كثيرة دارت في خلدي وأنا أُنهي قراءة جرائد يوم مروري ممل ثقيل في عاصمة عربية، وبعد الانتهاء من القراءة اتبعت هذا بفاصل من الثرثرة الفارغة مع الرفاق عن أسعار الخضروات وأسعار اللاعبين الدوليين! ثم أعدت قراءة جرائد اليوم ذاته وجرائد الأمس والذي قبله مع عدة كُتب؛ وبعد أن أنهيت كل تشاغُلي ذاك رفعت رأسي لأجد نفسي تحت نفس اللوحة الإعلانية التي توقفت سيارتنا تحتها قبل ساعة دون حراك، ومعها مئات من المحركات الملوثة للأجواء، لأجد إنسان اللوحة الدعائية يبتسم ويدعوك أن تفعل فعله لأنه وأنت على تخوم عاصمته... وكما قال سائقنا نقول: الحمد لله على قضائه!