ألف باء في العلاقة بين دولة رأسمالية ودولة اشتراكية مضطربة داخلياً، هي علاقة صراع بين استثمار المال من جهة وبين الجماعات والطبقات التي تستفيد من ذلك مقابل من يلتف محاولاً تحقيق حيز كبير من العدالة لطبقات تخسر الكثير مع الرأسمالية من جهة أخرى. ويزيد هذه العلاقة توتراً كون الدولتين غير متباعدتين جغرافياً، وإحداهما دولة كبرى بما تملك من صناعات وشركات ومال وقوة معرفية واستراتيجيات مختلفة، والأخرى ذات موارد طبيعية غنية ومساحات زراعية وتعاني من علاقات سابقة جائرة مع الرأسمالية وبها نسبة كبيرة من الفقراء، ومازالت تشهد حراكاً اجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً وإنسانياً في صراع على ما يجب أن تكون عليه الدولة من نظام اقتصادي سياسي. إنهما كاراكاس وواشنطن، فالشركات النفطية الأميركية هي الشريك التجاري الأبرز لفنزويلا والأكثر تضرراً من سياسات شافيز النفطية التي تعتمد الضرائب المرتفعة على القطاع النفطي إلى جانب ملكية الدولة لهذا القطاع برمته، ولذلك فإن الولايات المتحدة، من أجل تقليص الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، تسعى إلى إيجاد بديل لنظام شافيز في شكل حكومة موالية لها أو غرس منظومة رأسمالية في النظام الفنزويلي. (ت، ث) في السياسة الواقعية للدول، هو تأمين القوة والحضور الاقتصادي وحماية الأيديولوجيا ومراعاة الأبعاد الأمنية خاصة تجاه دول الجوار الجغرافي بالدرجة الأولى، وهذا ما يفسر العلاقة الطويلة بين واشنطن وكاراكاس، حيث تقلبت فنزويلا على نار الحرب الباردة والتدخل الخارجي مثل غيرها من دول وسط وجنوب أميركا اللاتينية لتصل في النهاية إلى أن تكون إحدى الدول المهمة في شبكة المصالح الأجنبية تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتبر واشنطن أن اليابسة التي تقع إلى الجنوب منها، الممتدة من المكسيك إلى أقصى نقطة في طرف القارة، فناء خلفي لها، لا يجوز لأحد أن يقترب منه، فتحكمت في مصير تلك البلاد تارة من خلال الشركات الرأسمالية الزراعية والنفطية والصناعية، فتحولت تلك الأرض، لفترة طويلة، إلى ساحة للصراع بين الغرب الأميركي والشرق السوفييتي، ولكن أحوالها ومواردها وقدراتها الداخلية وخبرتها التاريخية اليوم ولدت حاجة وقبولا لسياسات يسارية اشتراكية وطنية تمثلت بقيادة شافيز. (ج، ح، خ)، وحروفٌ كثيرة في المنظومة الرأسمالية والاشتراكية، ولكن أقوى ما تستطيع تلك الحروف البوح به، هو أن الاشتراكية هي التفرد بالسلطة والقوة بحجة البحث عن العدالة ومخاطبة الفقراء والمستضعفين والراغبين في تغير مالكي المال والحياة والقوة. أما الرأسمالية، فتعمل على استغلال العمال والمستهلكين والأسواق والاستثمارات، وهذا على مستويات متفاوتة من الوحشية، ولكنها تحقق تطوراً مستمراً لأنها تبحث عن النجاح، وهذا له أثره في العلاقة بين كاراكاس وواشنطن. فشافيز الذي انتخب عام 1998 ثم عام 2000، يعتبره البعض أول رئيس فنزويلي يعمل لصالح الفقراء الذين يشكلون 80 % من الشعب، ولكن هذا لم يمنع من أن يتعرض لمحاولة انقلاب في 2002، قادها بعض الضباط في الجيش ونصبوا حكومة لم تعمر أكثر من 48 ساعة في الحكم، وسقطت بعد مظاهرات شعبية مؤيدة لشافيز، وبعدها تدخل الجيش وأعادهُ إلى الحكم. وقد قام شافيز بإصلاح شركة البترول الفنزويلية وأزاح بعض مدرائها، فحاربته وسائل الإعلام باسم ضحاياه في الشركة، وكثرت الاضرابات والمظاهرات وفشلت كل فصائل المعارضة التي حصلت على مباركة من رجال الدين المسيحي وأموال رجال الأعمال مع تواطؤ كبار الضباط ليبقى شافيز في السلطة رغم قوة خصومه، فكأن الدين والمال والإعلام والعسكر فشلوا أمام شافيز، وكأنما شافيز ونصرته للفقراء وأخذ أحلامهم للواقع أشبه بنبي. (د،ذ) عديدة هي الحروف التي تتحدث عن العلاقة الحالية بين واشنطن وكاراكاس شافيز اليسارية، وهي العلاقة التي بلغت ذروتها بالتهديد بالتوقف عن إمداد أميركا بالنفط إذا استمرت واشنطن في ما اسماها "شافيز" بالحرب الاقتصادية التي تشنها على بلاده، والمعروف أن فنزويلا أحد أهم مصدري النفط إلى أميركا. وقد جاء ذلك على خلفية قرار المحاكم الأميركية والبريطانية بتجميد الأصول العائدة لشركة الطاقة الفنزويلية الحكومية، وذلك بعد أن رفعت شركة "اكسون موبيل" النفطية دعوى قضائية عليها مطالبة إياها بتعويضات، مدعية بأن مبلغ التعويض الذي وعدت به من الحكومة الفنزويلية لقاء تأميم منشآتها في فنزويلا قليل جداً، وجدير بالذكر أن هناك في واشنطن من لا يرضى عما قامت به "اكسون موبيل" من توتير للعلاقات مع كاراكاس أكثر مما هي عليه. وكان شافيز قد قال إن مشروع تأميم المنشآت النفطية سيدرُّ مليارات الدولارات على الشعب الفنزويلي، ويعتبر المشروع أحد أعمدة ثورة شافيز الاشتراكية. كما أن العلاقة بين الطرفين متأثرة بالعلاقات الفنزويلية- الكوبية التي تحركها الأيديولوجيا بالدرجة الأولى ما بين الاقتصاد والبرامج الاجتماعية الاشتراكية والشيوعية، كما أن التحرك الفنزويلي في أميركا اللاتينية يقوم على تعاون دول القارة وتقليص النفوذ والدور الأميركي، وهذا ما يفسر العلاقة الآخذة بالتطور أيضاً مع الصين. ولا شك أن علاقة شافيز بدول الشرق الأوسط، تمثل أحد عوامل الخلاف بسبب العلاقة مع دول تتصارع وتختلف مع سياسات واشنطن، وهذه كانت بدايتها التحالف الدولي ضد الإرهاب والحرب في أفغانستان والعراق، وما أحدثه من نتائج عالمية ودولية وإقليمية وفي حلقات أخرى أبرزها حرب لبنان 2006، وسحب السفير الفنزويلي من إسرائيل، والتقارب مع إيران وسوريا حيث تتقاطع بعض السياسات في الشرق الأوسط مع قارة أميركا اللاتينية البعيدة. وليس بجديد القول إن كل سياسات شافيز في الداخل والخارج تصب أيضاً في خانة تعزيز توجهات موسكو الدولية والاقتصادية والأيديولوجية. هل تكتب ثورة شافيز حروف العدالة للشعب الفنزويلي من الإصلاح الزراعي والنفطي؟ رغم اعتماده على قواعد أساسية تتمثل في الشعب والقوات المسلحة وعمليات التأمين وبسط يد الدولة على اقتصادها ومواردها، وانتهاجه سياسات داعمة لقطاعات واسعة ومحرومة من الشعب تعمل على التخفيف من أعبائها والتحسين من أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، خاصة ما يتعلق منها بالتعليم والصحة والمسكن، ما زال الوقت مبكراً للحكم على هذه الثورة التي لها أثرها الإقليمي في الأميركتين وأصداؤها العالمية بطبيعة الحال في عوالم السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والإنسان عموماً. ولكن ليس من قبل الحكم قولنا ما زال العالم يبحث عن العدالة الشاملة لأوطانه متخذاً منظومة تلو المنظومة من السياسة والاقتصاد والاجتماع والنظريات بيدٍ ثائرة وقابضة لتعطي، وربما لتأخذ وتتسلط، ويدٍ مستثمرة ومعمرة وآخذة ورابحة ومشغلة، وربما سارقة لحياة الفقراء، ويدٍ بين اليَدَين، وأيدٍ أخرى تصفِّق لهذه اليد أو تلك. وإن كان ما تميزت به فنزويلا من نهج يساري وتأميم، ففي ذلك تود القول إن حروف اقتصادنا كانت من دون نقاط، لأن الرأسمالية سرقت وتسرق نقاط حروفنا دائماً ونحن نعيد الكتابة بحروف صحيحة وعادلة، وحتى واشنطن اليوم، بما تتيحه الرأسمالية من أطر للاستثمار ودخول المال الخارجي في الشركات والمصانع والمصارف الأميركية ذات الأثر في القوة الاقتصادية والمالية الأميركية، ها هي تراجع وتنظر بعين بعيدة في الصناديق السيادية لحكومات بعض دول الشرق الأوسط وآسيا وتدقِّق في أبعادها وآثارها في الاقتصاد الأميركي وعلى الأمن عموماً، حتى لا يأتي يوم تقول فيه واشنطن إن بعض نقاط حروف اقتصادها وأمنها سرقتها الرأسمالية !