تحدثنا في المقال السابق عن الوطنية والقومية، أما في هذا المقال فسنحاول القيام بجولة أولى في مفهوم المواطنة والمواطن! ونبدأ بما قد تعطيه لنا اللغة العربية عن هذين اللفظين: ولاشك أن القارئ سيستغرب معي غياب هذا اللفظ في معاجمنا القديمة المتداولة: "لسان العرب" و"القاموس المحيط"، و"الصحاح"، و"تاج العروس"... الخ. أما في نصوص الكُتاب والأدباء فاللفظ غائب أيضاً، ولم أعثر له على أثر إلا في كتاب "خريدة القصر وجريدة العصر": للعماد الإصبهاني الذي عاش في القرن السادس الهجري (ولد سنة 519 وتوفي سنة 597 هـ) وموضوعه: أعيان وفضلاء عصره من الخلفاء إلى الشعراء... الخ، منطلقاً من بغداد... إلى المغرب والأندلس. وقد وردت كلمة "مواطنة" مرة واحدة في هذا الكتاب الضخم في رسالة نقلها يمدح فيها كاتبها بيت من يمدح بقوله عنها: "مكتسبة من الأشباح القدسيّة علاءً، ومنتسبة إلى الأشخاص الإنسية ولاءً، مترفِّعة عن مواطَنَةِ الأَغفال، ومقارنة أهل السّفال". وواضح أن معنى "المواطَنة" هنا هو: المصاحَبة والعيش مع... ولم يسعفني الحظ بالعثور على غير هذا النص فيما أمكنني البحث فيه من الكتب. ويكفي أن تكون الكلمة غائبة في المعاجم التي ذكرت... أما كلمة "مُواطِن" (بضم الميم) فهي أقل حظاً، إذ لم أعثر لها على أثر في أي قاموس أو نص (قبل عصر اليقظة العربية الحديثة). لقد وردت كلمة وطَن والجمع أوطان. ومَوْطِن، والجمع "مَواطن" (بفتح الميم). كما ورد لفظ واطَن "واطَنَهُ على الأمْرِ: أَضمر فعله معه، فإِن أَراد معنى وافقه قال: واطأَه -لسان العرب"، كما ورد لفظ "وطَّن" (بتشديد الطاء) إذ يقال: "وَطَّنَ نَفسَهُ على الشيء وله، فتَوَطَّنَتْ: حمَلها عليه". إذن، لفظ "مواطَنة" ونسيبه "مُواطِن" ليس فيهما من العربية غير الصيغة (مفاعَلة، مُفاعِل) وهي للمشاركة: مقاتلة/ مقاتل، مضاربة/ مضارب. وقد حاولت أن أتعرف على اللفظ الذي كان يستعمله العرب قبل "عصر اليقظة العربية" لأداء مفهومي "المواطَنة" و"المواطِن" كما نستعملهما اليوم في خطابنا المعاصر فلم أجد. أما قاموس "المنجد" لمؤلفه لويس معلوف، والذي ظهر في ظل "اليقظة العربية الحديثة"، إذ صدرت الطبعة الأولى منه عام 1909، فإننا لا نجد في طبعته الخامسة عشرة التي ظهرت عام 1956، العام الذي بدأ معه العصر الذهبي للوطنية العربية مشرِقاً ومغرِباً، أقول: لا نجد عنده حول مادة "و. ط. ن" إلا ما يلي: "وطن بالمكان: أقام به. وطَّن نفسه على الأمر وللأمر: هيأها لفعله، وطَن البلد: اتخذه موطناً. واطَنه على الأمر: أضمر أن يفعله معه. الوطَن: ج. أوطان: منزل إقامة الإنسان ولد فيه أم لم يولد"، وأيضاً: "مربط المواشي". "المُواطِن: الذي نشأ معك في وطن واحد، أو الذي يقيم معك فيه". وواضح أن الألفاظ السابقة ومعانيها منقولة عن القواميس القديمة. باستثناء لفظين: - اللفظ ما قبل الأخير أعني "وَطن" ففي تعريفه إضافة لا أصل لها في المعاجم القديمة، وهي قوله "ولد فيه أم لم يولد"؛ فهذا الجزء من التعريف منقول من لغة أجنبية. أما قوله: "منزل إقامة الإنسان" و"مربط المواشي" فهو المعنى الأصيل في اللغة العربية، وقد سبق أن ذكرنا هذا في مقال الأسبوع الماضي. - يبقى اللفظ الأخير أعني "المُواطن" فهو منقول كله لفظاً ومعنى. ولا يمكن أن يقال هو من "واطَنه" على الأمر، لأن المعنى يختلف. والفعل "وَطَنَ به يَطِنُ وأوْطَنَ: أقامَ"، وصيغة اسم الفاعل منه "واطِنٌ" (مثل: قتل فهو قاتل)، وهذه الصيغة من المهمل وليست من المستعمل. النتيجة: ليس في مخزون العرب، اللغوي وبالتالي الفكري والوجداني، ما يفيد "ما" يعنونه اليوم باللفظين: "المواطنة" و"المواطن". وكلمة "ما" هنا تفيد النكرة، وقد وضعناها بين مزدوجتين: لتقوية معنى النكرة فيها! لماذا هذا الغياب؟ الجواب هو أن هاتين الكلمتين من الملَكات المترجمة. وليس العيب في أن تنقل لغة من لغة أخرى كلمات وعبارات وأمثالاً ومعارف وعلوماً. فجميع لغات العالم قائمة على الأخذ والعطاء. وقد نقل الأوروبيون كثيراً عن العربية عند ابتداء نهضتهم الأولى في القرن الثاني عشر الميلادي وما زالوا ينقلون (هم يستعملون اليوم كلمات عربية عديدة لأنهم لا يجدون لها مقابلاً في لغاتهم مثل كلمة "انتفاضة" والـ"جهاد" و"طوبيب" toubib أي "الطبيب" بالمعنى العربي الشعبي أي "المداوي" سواء بالعقاقير أو بالسحر؟ -قرأت في بعض النصوص الفرنسية حول هذه الكلمة ما ترجمته: "هذه الكلمة toubib التي دخلت اللغة الفرنسية عام 1898، كانت قد استعيرت من العربية الجزائرية "طْبيب" (بسكون الطاء) التي تدل بالضبط على الساحر sorcier"). ما أريد التنبيه إليه بهذا الاستشهاد هو لفت النظر إلى أن اللغة العربية لم يتم التأريخ لها، لا قديماً ولا حديثاً. وغياب التأريخ للغة من اللغات يؤدي إلى غياب الوعي بالتطور لدى أصحابها. وهكذا فلو توفر لدينا قاموس يضع بجانب كل معنى من معاني الكلمات تاريخ استعمال هذه الكلمة أو تلك، في هذا المعنى أو ذلك، لسهل علينا أن نعرف الآن متى دخلت لغتنا "كلمة "مواطَنة" ونسيبها "مواطِن"، وكيف تقلبت بها الأحوال... الخ. لعل القارئ يستعجلني ويطلب مني "الانتقال" إلى الموضوع، أعني إلى إعطاء رأي في معنى المواطَنة والمواطِن. وأجيبه لقد قصدت القيام بهذا النوع من "اللف والدوران" حتى لا أصدمه بكلام يزعزع ويخلخل ما في ذهنه عن "المواطَنة" و"المواطِن". وأقصد هنا جمهور القراء الذين يكتسبون المعرفة بمثل هذه المفاهيم والشعارات مما يروج في سوق العولمة اللغوية المعاصرة. ذلك أنه يجب التمييز بين لفظ "الوَطنيِّ" الذي يقابل في اللغتين الأجنبيتين الرائجتين عندنا (الفرنسية والإنجليزية) لفظ patriote، المأخوذ من patrie بمعنى الوطن. ومنه patriotisme بمعنى الوطنية (حب الوطن والاستعداد للدفاع عنه... الخ)، وبين لفظ compatriote ومعناه الشخص الذي يعيش في بلد واحد مع آخرين، وهذا هو معنى "المواطِن" كما كان يستعمل اليوم في عصر العولمة. و"المواطَنة" بهذا المعنى يعبر عنها بـ compatriotisme، ومعناها وضعية المنتسبين إلى بلد واحد. والجدير بالتنبه هنا أن هذا المعنى لا يتضمن أن الذين يسمون بهذا الاسم compatriote (المواطِن) يحملون "جنسية" واحدة، إن لفظ "الجنسية" الذي نترجم به لفظ nationalité هو مشتق من nation بمعنى أمة أو قومية، وليس من patrie بمعنى "وطن". ولهذا يقال مثلاً للفرنسي أو الإنجليزي أو المغربي أو المصري... الخ: "إن مُواطنك الذي رأيتُه معك أمس هو من جنسية لبنانية، أليس كذلك؟ ويأتي الجواب بـ(نعم)، أو بـ(لا): بل هو من جنسية يونانية"! لفظ واحد غائب في هذه الجولة، أعني citoyen الذي يعتقد بعض الناس أنه ما زال هو معنى "المواطِن" في عصر العولمة! والكلام في هذا اللفظ ومشتقاته يحتاج إلى جولة خاصة به.