أذكر أن أول كتاب وقع في يدي، وفيه كلمة "مواطن"، هو كتاب خالد محمد خالد الذي يحمل عنوان: "مواطنون لا رعايا". كان ذلك بين عامي 1952- 1953 وأنا في السنة الثانية إعدادي، وفي نفس الوقت عضو في "الشبيبة الاستقلالية"، نسبة إلى الحزب الوطني الأكبر يومذاك "حزب الاستقلال". كانت كتب خالد محمد خالد الثلاثة "مواطنون لا رعايا" و"من هنا نبدأ"، و "لكي لا تحرثوا في البحر"، مع كتب سلامة موسى (الصغيرة الحجم مثل تلك: "التثقيف الذاتي"، "تربية سلامة موسى"، "عقلي وعقلك") هي التي بدأ وعينا السياسي من خلالها في التفتح. كنا نقرأ كل ما يأتينا من المشرق -وفيه "رائحة الوطنية"- حسب منطوقه، فلم تكن لدينا أية فكرة ولا أية رغبة ولا أي هاجس يدفع للتعرُّف على ما نسميه اليوم بـ"الخلفية" التي يصدر عنها هذا الكاتب أو ذاك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم أكن أعرف أن هناك مسافة بين خالد محمد خالد وبين سلامة موسى، لأني لم أكن أعرف -كجميع الشبان المغاربة يومئذ- أن سلامة موسى مسيحي، ولا كنت أعرف أن هناك بين أهل أي بلد عربي أناسا غير مسلمين. بعبارة أخرى كنا نقيس العالم على "قدِّنا". وأكثر من ذلك لم أكن أعرف أننا في المغرب سُنة ومالكية، لأننا لم نكن -نحن الشباب يومئذ- نتصور وجود تعدد لا في الإسلام ولا في العرب. وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فلأعترف بأن من جملة الأمور التي أثارت استغرابي عندما ذهبت إلى سوريا عام 1958 (ولم أكن سائحاً يبحث عن الغريب!) شيئين غريبين عليَّ: الأول وجود سيدات مُسنَّات بحجاب أسود يغطيهن من قمة الرأس إلى أخمص القدمين! ولما سألت عن ذلك من سبقوني من الطلبة المغاربة قيل لي: هن مسيحيات... إلخ. وكان الذي دفعني إلى طرح ذلك السؤال، ليس نوع الحجاب فحسب! بل لأنني جئت من بلد كانت فيه الدعوة إلى السفور قائمة على قدم وساق، لأننا كنا على أبواب الاستقلال، والاستقلال، كما كنا نفهم، يتطلب كسر الجمود على تقاليد الماضي والرجوع إلى الإسلام الصحيح! أما الأمر الثاني فهو أنني عرفت لأول مرة أن الفِرَق والمذاهب الإسلامية (سُنة، شيعة، خوارج، حنابلة، شافعية، حنفية...) التي قرأنا عنها "نُتفاً" في مادة الفلسفة والفكر الإسلامي في قسم البكالوريا ما زالت موجودة! لقد كنت أعتقد أن ذلك كان في الماضي، وأن الحاضر، في الدنيا كلها، يخلو منها، تماماً كالمغرب! كان عالمي هو "المغرب" الذي لم أكن أعرفه كما يعرفه الدارس الأجنبي، وإنما كانت معرفتي به من المعارف التي تتكون لدى الإنسان عن بيتٍ ألِفَ السكنى فيه. كنت أعمم عالمي الخاص على عالم جميع الناس. ومع أن معلمنا في الابتدائي حكى لنا يوماً قصة تُدين هذا النوع من التعميم، ومؤداها (أن شخصاً ولد أعمى فبقي يعيش في غرفة مظلمة منذ ميلاده إلى أن حدث ذات يوم أن فتح بصره فرأى شيئاً يجري على الجدار فسأل عما هو، فقيل له: ذلك "فأر"، ثم عاد في الحين إلى العمى بقدرة قادر. وذات يوم تحدث أخوه عن حصان أعجبه وبالغ في مدحه... فسأله أخوه الأعمى كيف هو؟ "هل هو كالفأر؟"). لست أدري ما علاقة هذه القصة بـ"كهف أفلاطون"! ولكن الذي أعلمه وأتذكره جيداً هو أن عنوان كتاب خالد محمد خالد "مواطنون لا رعايا" قد أثار فيَّ عندما اشتريته لأول مرة -وأنا في الثانية إعدادي كما قلتُ- نوعاً من الشعور عرفت فيما بعد أن علماء النفس يطلقون عليه اسم "التناقض الوجداني". لقد كان عالمي وعالم المغاربة في ذلك الوقت هو "مطلب الاستقلال"، كان الجامع الذي يجمعنا ويعلو على جميع الروابط الأخرى بما ذلك الروابط العائلية، من أبوة وبنوة وأخوة وغيرها هو "الوطنية"، ولذلك فعندما قرأتُ عنوان الكتاب المذكور "مواطنون لا رعايا" فهمت منه ما يوازن قولنا "وطنيون مغاربة"، مع هذا التحفظ: وهو أني لم أكن أستسيغ حرف النفي "لا" الذي يسبق لفظ "الرعايا" في عنوان الكتاب! كان ملِكنا، الملك محمد الخامس، آنذاك هو في آن واحد رمزاً للاستقلال وقائداً للمعركة الوطنية السياسية من أجله، كان مضطهداً ومحارَباً من طرف السلطات الفرنسية، وكان كلما حان الاحتفال بعيد تربعه على عرش أجداده، هرع الناس إلى الراديو ليستمعوا إلى خطاب العرش الذي كان يفتتحه دائماً بقوله: "رعايانا الأوفياء". فعلاً، والحق يقال، كان راعياً وفياً لرعيته وكانت رعيته وفية له؟ (عندما نفاه الفرنسيون إلى مدغشقر في أغسطس 1953 قامت المقاومة المسلحة فاضطروا إلى إعادته في نوفمبر 1955، وعندما عاد من المنفى وتحقق الاستقلال، صار يخاطب شعبه بـ"شعبي الوفي"، فالعلاقة التي كانت تربطه بشعبه كانت علاقة وفاء مضاعف: "الوفاء للوطن، ووفاء الشعب للملك والملك للشعب". هكذا كنا نفهم الأمور، نحن الشباب وجميع من كان يفكر عن حسن نية صادرة عن براءة تشبه براءة الأطفال، أو عن إيمان مثل إيمان العجائز. ما أثار فيَّ ذلك "التناقض الوجداني" في عنوان كتاب خالد محمد خالد "مواطنون لا رعايا" هو أني بقدر ما انجذبت لكلمة "مواطنون"، التي كنت أفهم منها "وطنيون"، بقدر ما انتابني إحساس بالنفور من الجزء الثاني من العنوان، أعني: عبارة "لا رعايا"! لقد أحسست وكأن هذه العبارة تشككني في علاقتنا، نحن جميع المغاربة الوطنيين، بملكنا، المحبوب المفدَّى، الذي كنا ننتظر خطابه السنوي الوحيد عبر الراديو، خطاب العرش، لينادينا "رعايانا الأوفياء". لا أتذكر كيف حدث أن فهمت أن عنوان ذلك الكتاب كان يتحدث في الحقيقة إلى المصريين، الذين كانت علاقتهم بالملك فاروق تختلف تماماً عن علاقتنا نحن المغاربة بملكنا. وأنا الآن أعزو ذلك الوعي -الذي حصل لي آنذاك- بالاختلاف بين وضعية المغرب ووضعية مصر، إلى أنني كنت أقرأ في ذلك الوقت، عام 1952-1953، قصة بعنوان "منى" للكاتب فريد أبو حديد. وأتذكر أن هذه الرواية قد شدتني إليها لسهولتها الفائقة (بالنسبة لقصص كرم ملحم كرم التي كنتُ لا أقترب منها إلا وقاموس المنجد بجانبي). ولم تمر سوى بضعة أشهر -ولعلها بضعة أسابيع- بين فراغي من قراءة تلك القصة حتى قامت ثورة الضباط الأحرار في مصر، وقد كان يكفي أن أستمع بلهف، كجميع المغاربة، لخطب محمد نجيب كي أفهم أن تلك هي "منى" فريد أبو حديد، ومقصود "مواطنون لا رعايا" خالد محمد خالد. لقد أسهبت في هذا الاستطراد -على طريقة الجاحظ- لأقول: إن ما حكيته أعلاه عن حالي وحال المغاربة سنوات 1950- 1956 يشبه إلى حد التطابق حال أولئك الذين استعادوا في فرنسا زمن ثورتها الشهيرة (1789) مفهوم citoyen) citizen) من اليونان، هذا اللفظ المشتق من cité) city) التي نترجمها بالعربية بلفظ "المدينة"، ولكن دون أن نشتق منه اسماً، لمن ينتمي إليها كعضو فيها، يقابل مفهوم ِcitoyen، وإنما استعملنا بدله لفظ "مواطن" الذي يقابل بالفرنسية لفظ compatriote أي "الشخص الذي يعيش في بلد واحد مع آخرين". وغني عن البيان القول -بعد الذي سبق أن قلنا- إن هذا ليس هو مفهوم "المواطن" في عبارة "مواطنون لا رعايا". إن المعنى الذي يحيل إليه هذا اللفظ في هذه العبارة/ الشعار هو مفهوم الـ citoyen الذي لا نملك له اسماً (وللمقال صلة).