أتيح لي أثناء بعثتي العلمية إلى فرنسا (1964-1967) أن أتعرف على أفكار الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" الذي طبقت شهرته الآفاق بعد ذلك. كان أول كتاب أصدره وأحدث صدى فكرياً عميقاً هو "حفريات المعرفة"، الذي تعقب فيه الجذور الأولى لنشأة العلوم الاجتماعية والإنسانية. وتوالت كتبه بعد ذلك فكتب عن نشأة السجن كتاباً شهيراً عنوانه "المراقبة والعقاب". في هذا الكتاب يصدر فوكو عن تحليل دقيق للمجتمع الرأسمالي، مبناه أنه في ظل هذا المجتمع هناك رقابة لصيقة على حركة الأفراد بناء على التقسيم العلمي للعمل. ومن لا يعمل سيسجل في سجل العاطلين، أما لو كان الفرد مريضاً عقلياً فسيدخل مستشفى الأمراض العقلية، أو لو كان ارتكب جريمة فسيدخل السجن. وقد درس "فوكو" مذاهب العقاب المختلفة، وأهم من ذلك درس مبنى السجن نفسه. وتبين له أنه -تحت تأثير بعض النظريات الإنجليزية- بنيت السجون بحيث يستطيع الحراس أن يراقبوا حركة المسجونين طوال الأربع والعشرين ساعة. تذكرتُ كتاب "ميشيل فوكو" المثير عن السجن باعتباره إحدى مؤسسات المجتمع الرأسمالي التي تبلورت أسسها النظرية والتطبيقية منذ نشأته، بعد أن كتبت مقالي الماضي "نحن والعالم". كنت معنياً في هذا المقال برسم لوحة تخطيطية للتغييرات التي حدثت في بنية المجتمع العالمي. وأريد اليوم أن أكشف ما وراء العولمة، والذي يمكن أن أوجزه في عبارة واحدة هي كونها صياغة ذكية لنوع من الاستعمار الجديد. وإذا كان نقاد الأدب معنيين بدراسة مرحلة "ما بعد الاستعمار" وانعكاساتها على الآداب المختلفة، فينبغي -كمحللين ثقافيين- أن نُعنى بما بعد الاستعمار من وجهة النظر السياسية، وفي هذا المجال نستطيع أن نرصد أربع ظواهر أساسية تحتاج إلى تحليلات متعمقة. الظاهرة الأولى هي أن الدول المتقدمة، أو فلنقل بعبارة أدق الدول الاستعمارية الجديدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وتوابعها من الدول الأوروبية، قد أعطت لنفسها حق المراقبة الدائمة ليس فقط لسياسات الحكومات في العالم الثالث عموماً، وفي العالم العربي والإسلامي خصوصاً، ولكن أيضاً لحركات الشعوب، ولأنساق القيم التي تتبناها، وللاتجاهات السائدة فيها. وهذه المراقبة لا تجري بغرض المراقبة فقط، ولكنها تتم بغرض عقاب الحكومات العربية والإسلامية، بل وعقاب شعوبها مباشرة من خلال تدخلات مخططة ومدروسة تتعلق بتغيير عقائدها الدينية وفي مقدمتها الإسلام، وطبعه بطابع يتفق مع مصالحها الاستراتيجية كما تراها. وهذا الطابع المُرتجى يركز على ضرورة نزع الدعوة إلى الجهاد التي يركز الإسلام عليها في مجال الدفاع عن الأوطان والذود عن العقيدة. والظاهرة الثانية هي أن الدول الاستعمارية الجديدة أعطت لنفسها ما تطلق عليه حق التدخل السياسي لتغيير طبيعة النظم السياسية الاستبدادية، التي لا ترضى عنها الولايات المتحدة الأميركية لأنها تمارس سياسة مضادة لمصالحها الاستراتيجية. وقد صاغ خبراء السياسة الأميركيون نظرية متكاملة عن تغيير النظم السياسية، وحاولوا عبثاً إضفاء الشرعية على هذه العملية من خلال منهج انتقائي لقواعد القانون الدولي، وكأنها دفاع عن النفس كما ينص على ذلك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وعن طريق توريط مجلس الأمن في الموافقة على خططهم الاستعمارية. وقد حدث ذلك فيما يتعلق بمحاولة الولايات المتحدة الأميركية انتزاع موافقة مجلس الأمن على الغزو العسكري للعراق بزعم أنه يمتلك أسلحة دمار شامل. وقد عارضت الدول دائمة العضوية في المجلس المشروع الأميركي، وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية مضت في خطتها بغير غطاء من الشرعية الدولية. ونظرية حق التدخل السياسي بالقوة المسلحة لها شق آخر يتبع الوسائل السلمية، التي تتمثل في فرض الديمقراطية بالقوة، من خلال استخدام الضغوط السياسية والاقتصادية. وقد باشرت الولايات المتحدة الأميركية هذه الاستراتيجية -خصوصاً من خلال مشروعها الفاشل عن "الشرق الأوسط الكبير"- الذي مورست من خلاله ضغوط شتى على مصر وغيرها من البلاد العربية. والظاهرة الثالثة من ظواهر مرحلة ما بعد الاستعمار هي حق التدخل الاقتصادي، الذي يفرض على صانع القرار الاقتصادي في عديد من دول العالم الثالث وعلى وجه الخصوص دول العالم العربي والإسلامي، تغيير التوجهات الاقتصادية التي كانت تنطلق من الفلسفة الاشتراكية، وتعتمد على القطاع العام في مجالات التنمية المختلفة. وقد ساعد الدول الاستعمارية الجديدة على تغيير المناخ الاقتصادي العالمي انهيار الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية، وهبوط مكانة "الماركسية" كأساس لمشروع التقدم الاجتماعي، وسيادة إيديولوجية "الليبرالية الجديدة". وفي ظل هذه الإيديولوجية تم الضغط العنيف على عديد من الدول لنسف القطاع العام بالكامل من خلال برنامج قسري للخصخصة، والغرض منه أن تستقيل الدولة نهائياً من أداء وظائفها التنموية، وبيع المشاريع القومية -مهما كانت شديدة الأهمية من الناحية الاستراتيجية- لمستثمرين عرب أو أجانب. بل إن الضغط مستمر لكي تقلع الدولة عن سياساتها في تحقيق التوازن الاجتماعي عن طريق دعم الفئات والشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً. ولو أضفنا إلى ذلك فرض معاهدة "منظمة التجارة العالمية" على كافة الدول التي وقَّعت عليها بالرغم من نصوصها المُجحفة بدول العالم الثالث، وفتح أسواقها بغير قيود ولا حدود للنفاذ الرأسمالي عن طريق الشركات المتعددة الجنسيات، لأدركنا نوع المخاطر التي تتعرض لها بلادنا العربية والإسلامية في ظل هذه التطورات. وتبقى بعد ذلك ظاهرة التدخل الثقافي. وقد شهدنا في الفترة الأخيرة تصاعد الحملات الصحفية والفكرية لتشويه الإسلام باعتباره ديناً يحض -كما يزعمون- على العنف، وإهانة رموزه وفي مقدمتهم الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أظهرت ذلك الحملة المسعورة للرسوم الكاريكاتيرية الدانمركية، التي تتم بزعم حق الأوروبيين -هكذا- في حرية التعبير. وكأن حرية التعبير المزعومة تبيح لهم ازدراء الأديان وإهانة مقدسات الشعوب غير الأوروبية. غير أن التدخل الثقافي بدأ يتخذ صوراً أكثر خطورة تتمثل في محاولة إعادة صياغة المذاهب الإسلامية، بما يتفق مع المصالح الاستراتيجية الأميركية. ويؤكد هذه الحقيقة التقرير الذي أصدرته مؤسسة "راند" الأميركية بعنوان "الإسلام الليبرالي"، والذي حررته الباحثة "شيرلي بينار" المقيمة الآن في دولة قطر باعتبارها مديرة مكتب مؤسسة "راند" هناك. ليس ذلك فقط، بل لقد تجاسرت الولايات المتحدة الأميركية بالإعلان عن مشروع جديد لها نشرت تفاصيله مؤسسة "راند" أيضاً بعنوان "إنشاء شبكات إسلامية معتدلة" ستقوم بتجنيد مئات من الشباب المسلم في البلاد العربية الإسلامية للدعوة للإسلام على الطريقة الأميركية. وإذا كان المجتمع الرأسمالي احترف من قبل الرقابة على كل أعضاء المجتمع وعقاب من يخرج على قوانينه، فإن المجتمع العولمي الراهن عن طريق الأقمار الاصطناعية وشبكات الإنترنت ووسائل القياس الأخرى، يقوم بالرقابة على تحركات الشعوب ذاتها، في سعي منه لتغيير قيمها واتجاهاتها. وتؤكد ذلك قياسات الرأي التي يقوم بها معهد Pew الأميركي عن قياس اتجاهات المسلمين إزاء الغربيين والعكس، والتقرير السنوي الذي أصبح منتدى "دافوس" يصدره سنوياً بعنوان "حالة الحوار بين الغرب والإسلام" (انظر تقرير يناير 2008) فكأننا كشعوب عربية وإسلامية تحت رقابة العين العولمية الجبارة بأحدث الأساليب التكنولوجية والعلمية، تمهيداً لعقابنا لو خرجنا عن الطوع. وهكذا يحدد المجتمع الرأسمالي العالمي -في ظل العولمة- أساليبه في المراقبة والعقاب.