القرن الواحد والعشرون مهم بالنسبة لدول الخليج العربي، فإما أن نكون أو لا نكون بعد هذا القرن، وخلال السنوات القادمة يجب أن تحدد هذه الدول إلى أين هي سائرة؟ هل ستتحول إلى دول ومجتمعات حديثة أم أنها ستبقى تقليدية ومحافظة؟ وعلى مدى اليومين الماضيين دارت نقاشات في غاية الأهمية، وستستكمل اليوم حول هذا الموضوع من خلال جلسات المؤتمر السنوي الثالث عشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية والذي جاء تحت عنوان "الخليج العربي بين المحافظة والتغيير"... ومن الواضح للوهلة الأولى أنه عنوان في غاية الأهمية لقضية تحتاج إلى اهتمام كبير. رياح التغيير بدأت بالهبوب على الخليج منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، وبالتحديد مع ظهور الثروة النفطية، ومع تزايد إيرادات الدول الخليجية من هذه الثروة، وانعكاس هذه الطفرة النفطية اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً على هذه الدول، الأمر الذي أدى إلى وجود تأثيرات اجتماعية وثقافية مصاحبة لا تقل أهمية عن تلك التغيرات الاقتصادية، إلا أن الجانب السياسي بقي بعيداً عن أي تغيير وحافظت أغلب المجتمعات الخليجية على نمطها السياسي القديم. أما اليوم، فقد صارت رياح التغيير أقوى وأشد، ولن تتوقف هذه الرياح، إلا وقد أخذت هذا المركب الخليجي إلى ميناء ما، واعتقد أنه لم يعد هناك خيار أمام المركب الخليجي، إلا رفع شراعه وتجديد مجاديفه، ليختار هو الطريق التي سيسير فيه بدلاً من أن يُترك للرياح تأخذه إلى حيث لا يدري. ويأتي هذا المؤتمر في وقت مهم جداً ليطرح قضية ملحة على المجتمعات الخليجية التي تعرضت إلى تغييرات جذرية في حياتها الاقتصادية، وتأثرت ثقافتها وتأثرت حياة الناس بتلك التغييرات. لكن مشكلة التغيير الذي طرأ على المجتمع الخليجي أنه كان عشوائياً ومتقطعا من ناحية الزمان ومن ناحية نوعية التغيير؛ فبعض الأحيان جاءت التغييرات التي شهدها المجتمع الخليجي، لتتعارض مع بعضها بعضا، وتأتي بنتائج عكسية وتأثيرات جانبية جعلت كثيراً من أفراد المجتمع الخليجي يتوجسون من تلك التغييرات، ويخافون من تأثيراتها عليهم على المديين القريب والبعيد. ويبدو أن هذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه أية عملية تغيير في المنطقة، فعدم وجود انسجام وتناغم بين مستويات وأنواع التغيير يجعل من التغيير أمراً "مقلقاً"، وهنا نؤكد على أن عملية التغيير هي عملية كاملة متكاملة، فالتغيير والانفتاح الاقتصادي يفترض أن يسير معهما التغيير السياسي والثقافي والاجتماعي والتعليمي. ومن غير المنطقي أن نُجزئ عملية التغيير، لأنها في النهاية لن تنجح ولن تحقق الأهداف المرجوة منها... وهذا يتطلب أن تكون هناك أجندة واضحة لكل دولة من دول الخليج للتغيير. ونحن نراقب الوضع الخليجي اليوم ونراه يراوح مكانه في التغيير السياسي، هل يمكننا القول إن الدول الخليجية فشلت خلال السنوات الطويلة التي مضت في تهيئة المجتمع الخليجي للتغيير الذي يفترض أن يصل إليه؟! وهل أخفقت كل تلك المليارات من الدولارات التي صرفت على التعليم في خلق أجيال خليجية قادرة على التغيير والانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر حداثة وتطوراً من المجتمعات التقليدية التي ما تزال هي السائدة في منطقتنا؟ الحقيقة التي يجب أن لا نغفلها أن دول الخليج والمجتمعات الخليجية ظلت طوال تاريخها مجتمعات محافظة، حتى وإنْ بدت منفتحة ظاهرياً، إلا أنها تبقى متمسكة بقيمها ومعتقداتها وثوابتها الثقافية والدينية، وبالتالي فإن الرهان على التغيير الكلي والسريع للمجتمعات الخليجية، قد يكون رهاناً خاسراً على المدى القصير. ولكن وبشكل عام فإن المجتمع الخليجي، أثبت خلال العقود الماضية أنه متفتح على الآخر، ومستعد لاستيعاب التغييرات التي يعتقد أنها ضرورية، وبالتالي ينجح في التقدم خطوة نحو التغيير والحداثة. وحتى يكون التغيير سلساً وفي الوقت نفسه، أكثر تأثيراً، فإننا بحاجة إلى أن يكون تغييراً نابعاً من الداخل، يعتمد على تراثنا العربي والإسلامي وعلى عاداتنا وتقاليدنا، تغييراً أصيلاً غير مستورد من هنا أو هناك، ولا يكون صناعة غربية أو شرقية، وإنما صناعة محلية مائة بالمائة من صنع أبناء هذه المجتمعات الذين يعرفون احتياجاتها تماماً، ويستطيعون أن يسيروا بعملية التغيير بوتيرة تنسجم وروح المجتمع ومتطلباته، لأن التغيير المنشود لن يتم بين يوم وليلة، وإنما سيحتاج إلى عقود من الزمان، ولكننا نتمنى أن لا تنتهي العقود العشرة للقرن الواحد والعشرين إلا وحققنا التغيير المطلوب منا، الذي يأخذنا إلى الأمام، ويضعنا في المقدمة مع الدول المتقدمة. وهذا يعني أن خطط الإصلاح التي بدأتها دول الخليج منذ عامين أو ثلاثة تقريباً، يجب أن تستمر بشكل ممنهج ومعلن وأن يكون هناك توقيت محدد لإنجاز مراحله الواحدة تلو الأخرى، وخصوصاً أنه صار واضحاً للجميع أن دول الخليج جادة في التغيير والإصلاح وفي تطوير وتقوية دولة المؤسسات، وواضح أن المنطقة تتمتع اليوم بوجود مجموعة من القيادات الشجاعة التي أثبتت في مواقف مختلفة استعدادها لمواجهة التغييرات والتأقلم معها عندما تتطلب الحاجة... وقد تكون هناك ظروف سياسية محلية وإقليمية ودولية - تتفاوت من دولة خليجية إلى أخرى- تؤثر بشكل أو بآخر في مستوى هذا التغيير الذي تسعى إليه دول المنطقة، ولكن يفترض أن لا تؤخر هذه الظروف خطط حكومات الخليج، وخصوصا إذا ما عرفنا أن الأوضاع السياسية لا تستقر فهي تتغير باستمرار. التغيير السياسي والإصلاح المقصود ليس العيش في ظل معارضة وأحزاب وجماعات واختلافات مستمرة بين أطراف المجتمع، ولكن التغيير السياسي الناضج، هو الذي يؤدي إلى وجود مجتمعات تتمتع بالالتزام بمبدأ المواطنة والولاء للوطن كمسألة لا نقاش فيها، وتساهم في تحقيق العدالة والمساواة بين أفرادها، والذي يؤدي كذلك إلى المشاركة السياسية للمواطن في صنع القرار وتحمل مسؤولية تطور المجتمع والحفاظ على المكتسبات وعدم استمرار المواطن في الاعتماد على الدولة في كل كبيرة وصغيرة، والاستمرار في الطلب والأخذ من الوطن دون الوصول إلى مرحلة العطاء للوطن. والعطاء المقصود هنا هو العطاء في الرأي وفي العمل وفي الحفاظ على المكتسبات. لقد ذكر الدكتور جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بعض الأرقام المهمة في كلمته القيمة منها أن نسبة الشباب بين سكان دول مجلس التعاون وصلت إلى نحو 65%، أما معدَّل إجادة القراءة والكتابة فتصل إلى نحو 89% وهذه أرقام مهمة عندما نفكر في التغيير أو المحافظة. وهذا يجعلنا نفكر بعمق فيما يريده الشباب من سكان المنطقة، فهل يريدون البقاء على المحافظة أم الانتقال إلى التغيير والحداثة فهذا هو حقهم وقرارهم لأنه يحدد مصيرهم في المستقبل. ونحن نفكر في التغيير أو المحافظة يجب أن لا ننسى كيف تأثر شباب المنطقة بثورة الاتصالات والمعلومات والتكنولوجيا، وكيف أثرت فيهم بشكل مباشر وغير مباشر وصارت مسألة التعبير عن الرأي بالنسبة إليهم أمراً في غاية الأهمية وحقاً مكتسباً ربما حصلوا عليه في العالم الافتراضي، لكنهم يمارسونه ويطالبون به في حياتهم اليومية وربما لا يمكنهم أن يستغنوا عنه بأي شكل من الأشكال. لقد عودنا مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية دائماً على طرح القضايا المهمة، وهو يستحق كل الشكر على طرح هذا الموضوع المهم جداً، والذي يفترض أن يأخذ نصيبه من الاهتمام والمناقشة والدراسة على جميع المستويات ومن مختلف قطاعات المجتمع التي يهمها هذا الأمر.