لكل بلدٍ مجاله الحيوي الذي يضم جيراناً له، فالولايات المتحدة الأميركية لا تتسامح مع انقلاب في باكستان البعيدة حفاظاً على أمنها القومي كما تقول، ومن باب أولى فالقلاقل المفترضة في المكسيك جارة العملاق الأميركي، لا يجب أن تحدث البتة ولا يمكن تخيل تلاعب كذلك في الداخل الكندي المجاور لبلاد "العم سام". مصر يمكن أن تتسامح إلى حدٍّ ما مع أحداث تقع في داخل ليبيا التي تفصلها الصحراء عن بلاد النيل، لكنها تُشمر عن ساعد التدخل متى ما سيطر خطرون على مجاري النيل في السودان أو في الحبشة وأوغندا. المملكة العربية السعودية تعتبر أمن دول الخليج من أمنها، ولا يمكن أن تسمح أو تتسامح مع لاعبين في هذا الأمن، وموقفها من التدخل العراقي في الكويت الشقيقة خير دليل. روسيا لن يتخيل متابع للأحداث أنها ستقف موقف المتفرج متى ما نصبت صواريخ حلف شمال الأطلسي في جوارها، وعلى أراضي دولٍ كانت تابعة لها قبل سنوات قليلة. في إطار هذا الفهم يمكن أن نعي العلاقة السورية- اللبنانية، وهي علاقة ملتبسة وساخنة سلباً في هذه الأيام، والمشكلة أن دولاً عديدة تطالب سوريا بما لا تستطيع التنازل عنه، وتطالب سوريا هذه الدول بما لا تستطيع تلك البلدان تقديمه، وهذه المطالبات تتمثل في شكل العلاقة بين سوريا وجارتها الصغيرة الغربية ذات التنوع المذهبي والديني، ولعل السؤال الكبير الذي يطرح نفسه على دول الاعتدال العربي هو كيفية التعامل مع سوريا هذه الأيام؟ هذا التساؤل لا يمكن الإجابة عليه إلا من خلال فهم النظرة السورية للبنان: سوريا تعتقد أن هذا البلد الجار قد استُقطع منها في سابق الأزمنة، وأن هذا الاستقطاع وإن أخذ الشكل القانوني الدولي فإنه غير ملزم -باطنياً- لسوريا، وبالتالي فإن اختيارات رئيس الجمهورية في لبنان وحتى تنفيذ عقود قساطل المياه والمجاري في عموم الأقضية اللبنانية يجب أن تمر وتوافق عليها دمشق قبل أن يلتئم مجلس النواب اللبناني، وقبل أن تتجه الأقلام لتوقيع تنفيذ تلك المشاريع مهما صغرت. أما السياسة اللبنانية تجاه العالم الخارجي وتجاه الجار المحتل الجنوبي، فلن نطيل أحاديث الرؤية السورية تجاهها، لأنها من المحرمات الدمشقية كما أثبتت السنون والأيام المتعاقبة. ونحن -الاعتداليين- وقد أقررنا بأن لبنان خط أحمر للأمن القومي السوري على المستوى العام، وأقررنا بأنه المجال الحيوي لها، فإننا لا نستطيع فهم سلب القرار الداخلي اللبناني ومحق هويته، واستلاب خياراته الاقتصادية والسياسية والتشريعية بما لا يضر استقرار البلد الشرقي الشمالي المجاور. ولعل ما يزيد من سوء الفهم بين سوريا وشركائها العرب الآخرين هو هذا الاندفاع الكبير تجاه لاعب إقليمي له مشاكل عديدة مع دول عربية تعتقد أن أمنها القومي هو الآخر مهدد من هذا اللاعب الخطر المنتشي بقوة اليورانيوم المخصب والبترودولار المتدفق، وبتاريخ طويل من فلسفة وثقافة تصدير الثورات، والاحتقار للشعوب المجاورة الأضعف منه والمشتكية من الخلل السكاني وإشكاليات أقلياتها المتطلعة -أحياناً- صوب الجار الشرقي إكباراً. لبنان وهو ميدان الصراع بين قوى عالمية وإقليمية، تثبت الأيام أنه غير قادر على حل أزمته السياسية دون رفع اليد السورية عنه، فهي (أي سوريا) لاعب أكبر -بل الأهم- في الساحة اللبنانية، ولها أتباع متمكنون منذ سنين عديدة، فلديهم السلاح وأوراق سياسية كثيرة، ولكن في المقابل فـ(سوريا) هذه الأيام غير قادرة على إرجاع الهيمنة الكاملة على جارتها الصغرى -كما كان في السابق- لأن عالماً مُتشكلاً من لاعبين إقليميين أساسيين ودوليين يقف بالمرصاد لها ملوحاً بإجراءات أممية حيناً، وبتحركات قوى لبنانية لا يمكن إغفالها حيناً آخر، وكل ذلك يحول دون السيطرة السورية الكاملة على النصف الثاني من لبنان.. وهكذا يستمر الصراع ليأخذ أبعاداً أوسع خارج لبنان، ولنشير صراحةً للعراق وما يحدث فيه، فأهداف اللعبة وقوانينها والنتائج المأمولة في الملعب العراقي تشابه الملعب اللبناني مع فروق معروفة للاعبين والحُكام المُعلنة أسماؤهم للتغطية فقط. يتحكم في القرار السياسي السوري عاملان مهمان: أولهما الإصرار على عدم جعل لبنان تهديداً للأمن القومي السوري، وفي هذا السياق يمكن فعل كل شيء، والعامل الآخر هو المطارحة السياسية إن لم تكن العسكرية مع إسرائيل على أمل الوصول إلى الإقرار بالنفوذ السوري الإقليمي -حتى- قبل إعادة أراضي الجولان المحتلة التي ليست بأهمية الهدف الأول، وفي كِلا العاملين يتم تنشيط فزاعة كبرى وهي (إيران وحلفاؤها المحليون) لجعل الغيوم السياسية تمطر أرباحاً على الأراضي الشامية. والآن ماذا يمكن فعله تجاه المخاوف والتطلعات السورية؟ لنتذكر أن موقفاً سورياً مؤيداً لإيران بشكل مفصلي تبلور في أوائل ثمانينيات القرن الماضي إبان حرب الخليج الأولى إلى حد قطع أنبوب البترول العراقي الذي يصب في ناقلات البحر المتوسط، وذلك مساندة لإيران في حربها مع العراق آنذاك، لكن هذا الموقف والموقف المضاد والمؤيد بشكل كامل للعراق من قِبل قوى الاعتدال العربي لم يمنع الاتصال بين هذه القوى وسوريا وعن طريق أعلى المستويات، كانت هناك تفاهمات مشتركة مثلما كان هناك تنافر في المواقف بين الجهتين، وعندما نستعيد تلك الذكريات السياسية فإننا نطالب بأن تُستدعى المواقف السابقة لمحاكاة مواقفنا الحالية، فقد يكون هناك -وهذا حادث بالفعل- تذمر شديد من هذا التكامل السوري الغريب مع الجار القاري الذي يخفي مفاجآت غير سعيدة لجيرانه العرب، لكن تذمرنا يجب أن يكون مقروناً باتصال بشكل أو بآخر مع سوريا في محاولة لإيجاد توازن استقطابي لموقفها. فـ(سوريا) تحتاج لإيران لأغراض اقتصادية، وهذا الأمر يمكن لدول الاعتدال العربي إيجاد حلول وبدائل سريعة وناجحة له، وتحتاج لإيران لإيجاد توازن استراتيجي للمواجهة السياسية المكتومة والتي يمكن أن تتطور إلى اصطدام عسكري مع إسرائيل، ويمكن لدول الاعتدال العربي إعطاء سوريا ضمانات عبر اتصال مع الولايات المتحدة، حول أمنها وشيء من النفوذ وإبطال المخاوف من نسف كامل البناء السياسي في دمشق والذي تم بناؤه منذ ثمانية وثلاثين عاماً. أما لبنان فلابد من معرفة أن مجلس النواب سيظل مُغلقاً واعتصامات أهل الخيام أمام السراي ببيروت ستستمر لزعزعة الأمن من خلال طرق كثيرة، وهذه الأمور ستكون محتملة الوقوع ما لم يتم التوصل مع سوريا إلى ترتيب لا تعود دمشق معه مهيمنة على القرار اللبناني كما السابق، لكن أيضاً لا يجعل لبنان السياسي الجديد يشكل مخاطر على الأمن السوري حسب اعتقاد أصحاب هذا الأمن، إلى جانب إعطاء حلفاء سوريا مزيداً من المشاركة الفعالة في رسم القرار السياسي اللبناني إلى حدٍّ لا يصل إلى التعطيل وتمرير خفايا رغبات الجار الشرقي والشمالي الكبير؛ بغير ذلك سيكون خُراج الأزمة اللبنانية يسبب آلاماً ومخاطر على صحة الجسم العربي، وسيزداد قلق قوى الاعتدال في المنطقة من زيادة نفوذ من كسب معركة العراق الحالية ويستعد لكسب معارك هلاله العقائدي اللاحق. إن الدعوة لمجالسة اطمئنانية وإغرائية -حذرة- مع الشريك السوري السابق، بل ومع الجار الإيراني غريب الأطوار، يمكن أن يحسن من الحراك السياسي الاعتدالي العربي، ويعطي أملاً في أن تنعم المنطقة بأمان واستقرار وازدهار يُشك في تحقق متطلباته ما لم يُجب على أسئلة كثيرة ومنها السؤال الذي عنون به هذا المقال!