من يستمع إلى تصريحات زعماء إيران الدينيين والسياسيين والعسكريين، يشعر أنها دولة عظمى تقف اليوم في وجه الدول الست الكبرى في العالم، لا تأبه لتهديد، ولا تخضع لاستمالة، وتراهن على الوقت، حيث التسويف والمراوغة أسلحة مهمة في صراعها نحو امتلاك قدرات نووية عسكرية، و"التقية" بأنواعها، السياسية والعسكرية، أداة طيعة في يدها لتضحك على من تريد وتتحالف مع من تحب وتهدد من ترى. لكن السؤال الذي يجب أن يثار هو: هل إيران نمر من ورق؟ أم أنها تملك قدرات حقيقية دفعت دولاً كبرى للتفكير والتمحيص قبل مواجهتها؟ هذه الأسئلة وغيرها تقودنا بالضرورة للتعرف على مدى قوة الجسد الإيراني أو ضعفه، وكذلك قدرات مخالبه للدفاع عن نفسه أو لفرض مصالحه. تكمن البداية في التعرف على حقيقة الغايات الاستراتيجية لإيران، أي مصالحها الحيوية العليا التي إذا تهددت فإنها ستلجأ إلى استخدام القوة العسكرية. تتركز هذه الغايات في ثلاث مصالح ذات أهمية استراتيجية لا تقبل النقاش أو التفاوض بشأنها، وهي: الحفاظ على استمرار حكم الملالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، والاعتراف بإيران كقوة إقليمية كبرى، وأن تصبح إيران زعيمة لشيعة العالم أجمع. لذلك فإن إيران تستخدم كل قواها الشاملة وعلاقاتها الخارجية وتحالفاتها، لضمان تحقيق هذه الغايات الثلاث، ومشروع طهران للمنطقة يجري تكريسه لخدمة هذه المصالح العليا. لكن النخبة الحاكمة في إيران تدرك بوضوح كافٍ أنها تحكم ثورة لا دولة، والوضعان الداخلي والخارجي يعرقلان المشروع الإيراني. فمن الناحية الداخلية يبرز الوضع الاقتصادي المتدهور، والمشكلات الاجتماعية المتأزمة. فبغض النظر عن مدى تأثير العقوبات الاقتصادية الدولية على إيران، حيث استمرار ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية يوفر لإيران الفرصة لتفادي التأثيرات السلبية للعقوبات، فإن الاقتصاد الإيراني يعاني أصلاً مشكلات بنيوية أصيلة، كانت نتاجاً طبيعياً لسياسات الحكومات الإيرانية المتعاقبة، بيد أن الرئيس محمود أحمدي نجاد لم يستطع حتى الآن الوفاء بما وعد به في برنامجه الانتخابي وخطته الخمسية للتنمية، فرغم أن إيران تحتل المرتبة الرابعة عالمياً من حيث إنتاج النفط، فإنها تستورد أكثر من 40% من حاجتها من البنزين، بواقع نحو ربع مليون برميل يومياً، وقفز التضخم بشكل سريع من 19.4% عام 2006 إلى نحو 39% عام 2007، فضلاً عن ارتفاع أسعار الأراضي والشقق إلى ضعف ما كانت عليه في عهد الرئيس خاتمي، ووجود موجة خطيرة من الغلاء في السلع الرئيسية، وارتفاع معدل البطالة ما بين 30% و50%، كما توجد أربعة أسعار للعملة الوطنية (الريال)؛ ما بين السوق الرسمية والسوق السوداء، وقد أصبح نحو 42% من السكان في إيران تحت خط الفقر، وفشلت الحكومة في بيع أسهم شركات القطاع الحكومي، وفي إنجاز أي مشروعات إنمائية واقعية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وكل ما استطاعت حكومة أحمدي نجاد إنجازه هو سحب الأموال من الصندوق الاجتماعي وإنفاقها على مشروعات غير إنمائية، فيما رفعت الحكومة أسعار خدماتها الرسمية. أما الوضع السياسي الداخلي فينذر بالانشقاق والتفكك، مما دفع حكومة أحمدي نجاد في منتصف عام 2007 إلى شن حملة هي الأعنف منذ عقدين لمواجهة هذا الانشقاق، استهدفت الاتحادات العمالية والطلبة ومنظمات المجتمع المدني، من خلال التعامل الصارم مع الالتزام بالتقاليد والمظهر الخارجي وتشديد العقوبة على كل من يعلن مناهضته لسياسات الحكومة، وردع كل من تسول له نفسه الجهر بنقد الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة. ومن المعروف أن المجتمع الإيراني "موزاييك" من عرقيات مختلفة، وربما يعتقد البعض أن المذهب الشيعي المنتشر بنسبة 87% يضمن الترابط بينها، لكن الحقيقة خلاف ذلك، حيث توجد 9 عرقيات مختلفة لكل منها عاداته وتقاليده ولغته، وحيث لا يتحدث الفارسية سوى 58% من السكان، كما تتعرض معظم العرقيات غير الفارسية للاضطهاد واختزال حقوق المواطنة، مما أثار الكثير من القلاقل في المناطق التي يقطنها الإيرانيون من أصول مختلفة مثل البلوش والعرب والأذريين والأكراد، أي أنه يصعب الحديث عن وجود ترابط مجتمعي في إيران ما لم تكن هناك تهديدات خارجية مؤثرة. وإذا انتقلنا إلى القدرة العسكرية الإيرانية، فسنجد الكثير من نقاط الضعف التي يصعب إحصاؤها، سواء من ناحية الإمكانيات أو الفاعلية العسكرية، حيث القوات المدرعة الإيرانية ضعيفة التنظيم، ويوجد بها عدد محدود من الألوية المدرعة القادرة على إدارة معركة الأسلحة المشتركة الحديثة، كما تواجه القوات الجوية الإيرانية نقاط ضعف نوعية كثيرة، وتفتقر إلى أنظمة القيادة والسيطرة المتقدمة، مع ضعف تدريب الطيارين وتدني مستويات الاستعداد القتالي، ومعظم الطائرات من الجيل الثاني، وتفتقر إلى القدرة على مقاومة أنشطة الحرب الإلكترونية. أما قوات الدفاع الجوي فهي غير قادرة على التغطية الرادارية على الارتفاعات المنخفضة، لذلك فإن القوات المسلحة الإيرانية بوضعها الراهن وقدراتها النوعية المختلفة، لا تستطيع أن تخوض حرباً ذات تقنيات عالية وضد قوات تتمتع بتفوق في التسليح والتكنولوجيا وتعتمد على قدرات تدميرية عالية، وتدير العمليات المشتركة الحديثة بتناغم كامل، ووفق منظومة متكاملة للقيادة والسيطرة والمعلومات والاتصالات. ونتيجة لأن النخبة الحاكمة في إيران تدرك ذلك كله، فإن تحقيق الغايات الحيوية وفق رؤية هذه النخبة يعتمد على بناء قدرات تقليدية تفوق حاجاتها الدفاعية الذاتية ومتطلبات ضمان أمنها القومي بالاعتماد على الكم على حساب الكيف، بل وتتخطى استراتيجية الكفاية الدفاعية لتنطوي على تهديدات لباقي دول المنطقة وتعبر عن طموحات الهيمنة وفرض الأمر الواقع، حيث إنها تقوم ببناء منظومة متكاملة من الصواريخ الهجومية وتمتلك قدرات هجومية بحرية مثل سلاح الغواصات والقوات البحرية الانتحارية، مع الاعتماد على الحرس الثوري الإيراني في حماية زعماء الثورة من الملالي من جانب، وإثارة الحرب بالوكالة من جانب آخر. من هنا جاء مفهوم تصدير الثورة ودعم المستضعفين في فكر ودستور النخبة الحاكمة الإيرانية، لذلك فإن الدعم الإيراني المادي والعسكري غير المحدود لشيعة وسنة العراق، ولتنظيم "القاعدة"، وحركة "طالبان" السنية في أفغانستان، و"حزب الله" في لبنان والحركات الفلسطينية السنية في الأرض المحتلة، والحوثيين في اليمن، وتجهيز خلايا نائمة في بعض دول الخليج تابعة لفيلق القدس... لا تعني سوى تصدير الضعف الإيراني إلى الخارج، وإشغال الخصوم بعيداً عن المصالح الحيوية للنخبة في طهران، دون أن تتحمل إيران أي خسائر في الأرواح، وهو ما يبرر عدم وجود قتلى أو أسرى من الحرس الثوري الإيراني ضمن مناطق الحرب بالوكالة، فإيران لن تضحي من أجل الآخرين، لأنه أمر لا يحقق لها مصالحها الحيوية. من كل ما سبق وغيره كثير منشور بلغات عدة حول الأوضاع في إيران وحقيقة قدراتها الشاملة يتطلب الدراسة المعمقة للمشروع الفارسي للمنطقة، فالدولة التي تطالب العالم بأسره بالاعتراف بها كقوة إقليمية يجب أن تمتلك السلاح الذي يردع مصادر التهديد الرئيسية من جانب، ويضمن استمرار حكم الملالي في إيران من جانب آخر، ويفرض التضحية من أجله بكل شيء بما في ذلك الشعب الإيراني الذي يرزح حالياً تحت ركام الفقر. لذلك فإن تهديدات بلاد فارس بالرد الحاسم والعنيف على كل من تسول له نفسه الاقتراب من القدرات النووية الإيرانية تدفع ثمنه الدول العربية مرتين، الأولى من خلال خسائرها الناجمة عن الحرب بالوكالة التي لن تخسر فيها إيران ناقة ولا جملاً سوى الإمداد بالسلاح والمال، والمرة الثانية إذا امتلكت إيران قدرات نووية عسكرية لأنها ستكون طريقها لابتزاز الجميع... ولا عزاء لأحد.