في عالم تطرف الأفكار تختلط المصطلحات وتخرج عن طورها ومكانها الصحيح، وتبتعد عن استخداماتها الفعلية، بحيث تلتصق دلالاتها بالتأويلات المتطرفة لاستنتاج أحكام مسبقة بدل المعاني المباشرة لأي كلمة يراد لها الدخول إلى الباطل بالبعد عن الحق الذي قد ينسبه فكر حصري متطرف لنفسه من دون العالمين. هذا ما ابتلينا به بتلاعب بعض الجماعات التي تزعم الاعتدال وتمارس عند النزال العكس في الفعال، فضاقت مساحة الفكر لديها إلى درجة أقل من سم الخياط لإجراء مقارنة ومقاربة في نفس الوقت بين المترادفات من الكلمات التي تتبادل فيها الأحرف لإحداث تغييرات جذرية في بنية الكلمة لإخراجها عن المعنى المباشر وإحراج الآخرين أثناء تداولها بصورة لا يراد لها إلا الخلط بين الحقائق والباطل لحاجة في نفس يعقوب ولكنه لم يقضها. فالوطن الذي يضحى من أجله بالأرواح والأبدان ويقع المدافع عنه في خانة الشهداء الأبرار، كيف يتحول عند بعض أصحاب الأفكار المغلقة إلى "وثن" بمجرد تبديل حرف الطاء ما بين الكلمتين، فعابد الوثن يشوى بالنار، أما صائن الأوطان من كيد الكائدين فمكانه في أعلى الجنان، فهل يصح بعد ذلك المقارنة الخائرة بين هذا المقام السامي وذاك الداني؟ فالسعي إلى رفعة شأن الوطن واجب لا يقل عن أي واجب قومي أو حتى ديني آخر في هذا الإطار، فخيانة الأوطان جريمة عظمى كما هي الحال في خيانة الأمانات، وقد تتم سرعة البت في الأولى وتأجيل الأخرى لضرورة تقديم الأولويات. فالوطن هنا مقدس وفق المفاهيم الدينية لأن الحفاظ عليه جزء لا يتجزأ من الحفاظ على الأرواح والأموال والأعراض، فالكل هنا بمثابة السياج الذي يقي الوطن الغالي شرور الزمان، فالاختلاف حول بعض القضايا الحياتية لا يعني أن يحوّل البعض الوطن بأكمله إلى وثن بهذه السهولة اللفظية، والفكر الذي يقوم بهذا الدور المسيء يجب أن يوقف عند حده وتقصقص أجنحته. إن من إكرام الوطن وإعلاء شأنه عدم إجراء المقارنات بينه وبين الأوثان، التي تشوه صورة الوطن لأسباب أتفه من أن نذكرها هنا. وسبب هذا اللغط المتعسّف هو مزج الديني بالسياسي، وهو كذلك نوع من الإيحاء لاصطياد الأخطاء بدل المساهمة في تراكم الصواب لصالح وطن الجميع، أن يعيش البعض في صندوق مغلق من الأفكار التي هي بحاجة إلى إعادة نظر في مدى إنزالها على الوقائع المستحدَثة أو المصطلحات الشائعة علماً بأنه ليس كل ما يشاع صحيحاً، لأن الاختبار الحقيقي له عند الاحتكاك بالقضايا التي تمس الوطن الذي يظلل الجميع بلا تفرقة، فهو بمثابة الأم التي لا تقاطع أبناءها لأنهم ليسوا على قدم المساواة في السلوك والتصرفات والأهواء والشهوات، ومع ذلك فهي تتعامل مع كل واحد منهم بطريقتها الخاصة، وبما يتناسب مع الفرد دون أن تفرط شعرة في واجب الأمومة تجاه الكل. فحري بنا ألا نعرض وطننا الغالي إلى التشويه في بحر المصطلحات التي لا تتصالح مع مصالح الوطن العليا، والاختلاف في هذا الشأن لا يعني تعريض رفعة شأن الوطن إلى الانتقاص مهما كانت المبررات لأن ما ينطبق على الفرد الواحد ليس بالضرورة أن يسحب على الكل، إلا أن الوطن يبقى الأعلى ومن يحاول جره إلى مرتبة "الوثن" الأدنى فعليه مراجعة فكره، ووقف التلاعب بالحروف التي ضلت طريقها إلى تحقيق الأهداف السامية لعزة الوطن. والأخطر من ذلك كله، أن يتحول هذا التلاعب بالحروف القاتلة إلى سلوك وتصرفات تبنى عليها الأحكام القطعية لاتهام الآخرين من المخالفين لتوجه هذا الفكر المأزوم من داخله إلى آراء متحجرة لا يمكن لمجتمع الإمارات السماح لها بالتواجد، فضلاً عن الشروع في استخدامها بالطرق الملتويّة، ومن ضمنها ليُّ عنق الوطن قسراً وجرُّه وتحويله إلى شيء آخر سمي عند أصحاب الآراء الحدِّية بـ"الوثن".