تعيش معظم دول العالم حالة من التشتت بين الإنفاق على مشاريع التنمية الأساسية التي ترفع من مستوى بناها التحتية ورفاهية شعوبها وبين الإنفاق على متطلبات الدفاع وتأهيل الجيوش والأغراض العسكرية الأخرى. هذه الظاهرة التي تلتهم الجزء الأكبر من الموازنات السنوية لدول العالم النامي، أكثر حدة ووضوحاً في دول العالم العربي. ورغم أن دول العالم النامي هي الأكثر تضرراً من هذه الظاهرة، فإن دول العالم الأخرى تعاني من المشكلة نفسها. فإلى العام 1989 بلغ إجمالي معدل الإنفاق العسكري العالمي، آلاف المليارات من الدولارات الأميركية في العام، وكان الجزء الأعظم من ذلك الإنفاق يتركز في ثلاث أمم هي الصين والهند واليابان. ورغم انتهاء الحرب الباردة، يُلاحظ منذ بداية الألفية الثالثة، أي بين العامين 2000 و2008، أن تلك النفقات ازدادت بمعدلات قياسية جديدة، وفي الوقت نفسه تقلصت احتياطات العالم الاستراتيجية من الغذاء خلال السنوات الماضية إلى أن وصل الرقم إلى صفر وشهدت خلالها العديد من الشعوب حالات مجاعة قاتلة قضت على مئات الآلاف من البشر في أفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك، شهد العالم تدهوراً في البيئة الطبيعية وتدميراً لها يكاد يكون متعمداً في بعض الحالات. تداعيات بعض من أنماط تدمير البيئة العالمية لا يمكن إصلاحها أو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل أن ينالها الدمار، ونتيجة لذلك أصبح من المحتم على العديد من البشر العيش في بيئة طبيعية ملوثة. ومن جانب آخر، يشهد العالم أجمع تدهوراً سريعاً في المواد الأولية التي يحتويها نتيجة للهدر المفرط وسوء الاستغلال المبالغ فيه الذي شهدته مصادر المواد الأولية على يد الدول الصناعية الكبرى، ما أدى إلى تناقص حاد في تلك المصادر. ويلاحظ أيضاً أن عدد سكان العالم مستمر في التزايد في الوقت الذي يشهد فيه العالم تناقصاً في مخزونات الغذاء، وتزايداً في حالات سوء التغذية التي تلم بشعوبه. ومع اقتراب انقضاء العقد الأول من الألفية الثالثة، أصبح من الواضح أنه لا يمكن أن تبقى تلك الأنماط مستمرة، وهي مجتمعة مع بعضها بعضاً لعقدين أو ثلاثة عقود قادمة و إلا ستُدمِّر كوكب الأرض. وبرغم التسابق في تخصيص الموارد اللازمة للاستخدامات العسكرية، فإن العديد من دول العالم النامي لا تزال تشعر- مع مرور الوقت- بأنها أقل أمناً مما كانت عليه في مرحلة ما قبل انتهاء الحرب الباردة وليس العكس. وضمن السياق العالمي لمرحلة ما بعد الألفية الثالثة، تساهم بدهية الأولوية الخاصة بالأمن الوطني في تعميق المعضلة. توضيح ذلك يتلخص في أن الخطوات العسكرية التي تم اتخاذها لمواجهة المخاوف الوطنية المتعلقة بالأمن، تخلق تسلحاً أكثر قوة، الأمر الذي يعمل على زيادة المخاوف لدى الشعوب من إمكانية استخدام تلك القوة لشن الحرب، وربما في بعض الحالات تولد طموحات قومية نحو التوسع الخارجي مثلما حدث بالنسبة للعراق تجاه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وتعلم جميع دول العالم سواء أكانت من العالم النامي أو العالم الصناعي بأن الاستمرار إلى ما لا نهاية في عمليات التسلح وبناء الجيوش ليس في صالحها من عدة نواحٍ. فأولاً هذا النمط من البناء العسكري ليس بالضرورة موفراً للأمن الوطني على الصعيد الخارجي. ومن تجارب العديد من دول العالم النامي بالذات، تؤدي عمليات سباق التسلح إلى بناء جيوش جرارة تعمل في نهاية المطاف على الاستيلاء على السلطة عوضاً عن تحقيق الأمن. ثانياً، ان الإنفاق العسكري المتزايد يلتهم إمكانيات الدول كافة ويؤثر على عمليات التنمية الشاملة لدى دول العالم النامي، وسياسات دولة الرفاه لدى دول العالم الصناعي، وثالثاً تعمل عمليات التسلح الثقيل، خاصة عندما تتخطى المسألة عمليات التسلح التقليدي لكي تدخل في متاهات الأسلحة غير التقليدية، خاصة النووية منها، على زيادة سباق التسلح من جانب، وعلى اختلال موازين القوة بمفاهيمها التقليدية من جانب آخر. المحير في الأمر هو أن جميع دول العالم صغيرها وكبيرها، قويها وضعيفها فقيرها وغنيها، تعلم تلك الحقائق علم اليقين، ولكنها في الوقت نفسه تعمل ضد خفض التسلح، وضد التخلص من الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل وتستمر في تجهيز الجيوش على حساب كل شيء آخر. ذلك لن يجعل العالم آمناً، ولن يحقق الرخاء والطمأنينة والتنمية والرفاه لشعوب الأرض. فمتى سنصبح جميعاً كبشر دعاة سلام؟ ومتى سنعمل حقيقة على تحقيق سلام وسلامة الكرة الأرضية بكل ما نستطيع؟ ومتى سنتكاتف لكي نعمل على إنهاء كافة مشاكل هذا العالم من اقتصادية وبيئية وسياسية واجتماعية؟