نجح فريق من العلماء الأستراليين بداية هذا الأسبوع في تحقيق اختراق طبي مهم، ضد واحد من أكثر الأمراض فتكاً بالجنس البشري، وهو مرض الملاريا. فمن خلال تعديل التركيبة الوراثية للطفيلي المسبب للمرض، اكتشف العلماء أنه من الممكن إدخال تغييرات على الطريقة التي يصيب بها خلايا الدم الحمراء، ويجعلها تلتصق ببعضها بعضاً، لتسبب الأعراض الخطيرة للمرض، الذي ينتهي في الكثير من الحالات بالوفاة وخصوصاً بين الأطفال. فمن بين الأمراض المُعدية، تعتبر الملاريا والسل والإيدز أخطرها على الإطلاق. فالملاريا وحدها تصيب أكثر من 500 مليون شخص سنويّاً، يلقى منهم ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين حتفهم بسبب المرض كل عام. والغريب أنه على رغم فداحة الثمن الإنساني الهائل للملاريا، لا يحظى هذا المرض، بنفس القدر من التغطية الإعلامية التي تتمتع بها أمراض أخرى مثل مرض الزهايمر، أو التهابات المفاصل، أو طائفة الاختراقات الطبية الحديثة مثل أبحاث الاستنساخ. وربما يكون السبب في ذلك هو ما يعرف بمصطلح الأمراض المنسية أو المهملة (Neglected Diseases)، وهي الأمراض التي تصيب حاليّاً مئات الملايين من الأشخاص، دون أن تلقى الاهتمام الطبي المناسب، أو حتى القدر الكافي من التغطية الإعلامية. ولكي نستوعب معنى الأمراض التي نسيها، أو بالأحرى أسقطها العالم من ذاكرته عمداً، يجب أولاً أن نسترجع بعض الحقائق عن الواقع الصحي حول العالم، وبالتحديد واقع البحوث الطبية وعلاقتها بأمراض الأغنياء وأمراض الفقراء. فمن الحقائق المعروفة والمسلَّم بها في الأوساط الطبية، ما يعرف بمفهوم التسعين في المئة مقابل العشرة في المئة. هذا المفهوم أو الواقع، مفاده أن تسعين في المئة من البحوث الطبية تجرى حول عشرة في المئة من الأمراض فقط، بينما لا يجرى على التسعين في المئة من الأمراض الباقية إلا عشرة في المئة فقط من مجموع البحوث الطبية. ومفهوم أن هذا الهرم المقلوب في جهود البحوث الطبية، سببه اقتصادي بحت. فالعشرة في المئة من الأمراض التي تنفق عليها معظم ميزانيات البحوث الطبية، تقع ضمن ما يمكن أن نطلق عليه أمراض الأغنياء. وأمراض الأغنياء تلك هي مجموعة الأمراض التي تنتشر بين سكان الدول الغنية، نتيجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تسود في تلك الدول. بينما تنتشر الأمراض المنسية في الدول الفقيرة غالباً، وخصوصاً الدول الاستوائية، والدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء، نتيجة ما تتميز به هذه الدول من مناخ دافئ رطب، يهيئ بيئة مناسبة لتوالد وتكاثر الحشرات التي يعتمد عليها جزء كبير من تلك الأمراض في الانتشار من شخص إلى آخر. أما الأمراض المُعدية الأخرى التي لا تعتمد على الحشرات في انتقالها، فدائماً ما كان بُعد المسافات والعزلة الجغرافية مانعاً من وصولها إلى شواطئ الدول الغنية. ولكن هذا الوضع من شأنه أن يتغير عما قريب. فالمتوقع أن ظاهرة الاحتباس الحراري، والدفء العالمي، من شأنهما أن يغيرا من نمط وجغرافية انتشار الأمراض المُعدية بشكل كبير، حيث سيتسبب ارتفاع متوسط الحرارة السنوي في الكثير من مناطق العالم، في خلق بيئة مناسبة لانتشار الحشرات التي كانت برودة تلك المناطق تشكل حاجزاً بيئيّاً ضدها. وبالفعل، تظهر الإحصائيات الصادرة عن الجهات الصحية الحكومية في أوروبا تزايداً مطرداً في عدد الإصابات بما يعرف بالأمراض الاستوائية (Tropical Diseases)، بسبب اقتصار انتشارها سابقاً على المناطق الاستوائية. وليس ببعيد عن الذاكرة، ما تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً عن جهود العديد من مناطق الريف الإيطالي في مكافحة بعوضة النمر (Tiger Mosquito)، نتيجة تسببها الصيف الماضي في نقل مرض فيروسي كان مقصوراً وجوده سابقاً على أدغال أفريقيا. بينما تعلن العديد من الولايات الأميركية كل عام حالة التأهب ضد فيروس النيل الغربي (West Nile Virus)، الذي وصل إلى شواطئ القارة الأميركية قبل بضعة أعوام فقط. وبخلاف التغيرات المناخية وما سينتج عنها من زيادة الرقعة الجغرافية للعديد من الأمراض المُعدية، تشكل ظاهرة العولمة قوة أخرى مهمة في إعادة تشكيل الواقع الصحي العالمي. وربما كان أكبر دليل على أهمية العولمة على الصعيد الصحي، هو قيام منظمة الصحة العالمية العام الماضي، بإصدار تقرير خاص بعنوان "الأمن الصحي العالمي" (International Health Security)، يلقي الضوء على جوانب العلاقة بين تصاعد ظاهرة العولمة وتزايد انتشار الأمراض والأوبئة. فالعولمة بطبيعتها، تعتمد على زيادة حركة البضائع والأشخاص بين مناطق ودول العالم المختلفة، وهو بدوره ما يسهِّل أيضاً انتقال الجراثيم والميكروبات بين تلك المناطق والدول. والحقيقة أن هذه التغيرات المستقبلية، الجغرافية والديموغرافية، من شأنها أن تجعل الكثير من الأمراض المهملة سابقاً، محل اهتمام الدول الغنية بما تمتلكه من مصادر مالية ضخمة ومراكز بحثية فائقة التقدم. فالحكومة الأميركية مثلاً، قررت قبل ثلاثة أعوام تخصيص أكثر من مليار دولار لمكافحة الملاريا حول العالم. وربما كان اكتشاف العلماء الأستراليين هذا الأسبوع، ومن قبله عدة اكتشافات على أيدي البريطانيين في نفس الموضوع، أفضل مثال على ما يمكن للمراكز العلمية في الدول الغنية أن تحققه من اختراقات طبية مهمة ضد أمراض فقراء العالم. وهو الموقف الذي ربما يعبر عنه بدقة، المثل القائل إن مصائب قوم عند قوم فوائد. د. أكمل عبد الحكيم