ما هي قصة دارفور في السودان؟ وماذا يحدث هناك؟ كل الصحفيين الذين زاروا الإقليم رجعوا بانطباع واحد، وهو أن الوضع مرعب ومريب ومأساوي، لكن لم يتفق الجميع على الجاني. أما المجني عليه، فهو معروف، إنه الشعب المغلوب على أمره. وضع دارفور يطرح تساؤلاً مهماً، وهو لماذا كل هذا الاهتمام الغربي بدارفور؟ وما سر الاهتمام الكبير للدول الكبرى بقضية دارفور بالذات، في الوقت الذي تشهد فيه مناطق كثيرة من العالم مآسي لا تقل عما يحدث في دارفور؟! وفي المقابل ما هو سر الصمت العربي على ما يحدث في السودان طوال السنوات الماضية؟! أوضاع دارفور الخطيرة، دفعت محكمة الجنايات الدولية في منتصف يوليو الجاري لإصدار مذكرة لتوقيف البشير والتهم الموجهة إليه هي "تعبئة كل أجهزة الدولة السودانية بقصد ارتكاب جريمة إبادة جماعية في دارفور". وترى المحكمة أن البشير استخدم ثلاثة أسلحة لارتكاب جريمته في المخيمات التي تأوي قرابة 2.2 مليون نازح في دارفور؛ هي:"الترهيب والاغتصاب والتجويع". وكما هو معروف أنه منذ إنشاء هذه المحكمة قبل ست سنوات، فإنها فتحت أربعة ملفات لم تغلق أياً منها إلى اليوم، وطالبت بـ 12 متهماً لم تستطع إحضار نصفهم، فهل ستنجح مع البشير؟ مهما كان وضع البشير فلا شك أنها سابقة خطيرة، وقد تكون هذه المحاكمات أخطر سلاح حقيقي يوجه إلى "بعض" الحكام العرب، لأنه من الناحية التقنية، فإن أغلب دولنا العربية يمكن إدانتها بواحدة من تلك الأمور التي تصنف ضمن "جرائم ضد الإنسانية"، وبالتالي، فإن الحذر في المرحلة المقبلة مطلوب من بعض رؤساء الدول العربية حتى لا تتحقق نبوءة أحد الزعماء العرب فيما يتعلق بمستقبل رؤساء الدول العربية، والتي أشار إليها في اجتماع القمة العربية الأخيرة في دمشق. وسواء كان الاتهام صحيحاً أو غير صحيح، فإنه لأمر مخزٍ أن يُطالب رئيس بلد عربي وهو على كرسي حكمه بالذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية -وهو أول رئيس في موقعه يحال إلى المحكمة- وكأن العرب سيبقون إلى الأبد للتجارب، فأي قانون جديد يطبق على العرب قبل أي أحد آخر، كما كان دائماً أي سلاح جديد يستخدم ضد العربي أولاً. قد يكون البشير ومجموعته ينتظرون من الشعب السوداني والشارع العربي بأكمله أن يتظاهر من أجل الدفاع عنهم. وقد يخرج الناس بالمئات والآلاف في تظاهرات عفوية على مثل هذا القرار، ولكن يبقى أن نؤكد على أن محركهم الرئيسي هو الغضب ضد الغرب المتعالي والمتدخل في شؤونهم وضد تسلطه الدائم عليهم. وهذا يعني أن الخروج في مظاهرات تحمل فيها صور البشير ليس لأنه هو الرئيس البطل المعصوم، ولكن لأنه رمز البلد، وبالتالي فإن هناك ما يزال من يعتقد أن إهدار كرامة هذا الرمز هو إهدار لكرامة الوطن وكرامة جميع المواطنين، ومن هذا المنطلق يكون أي قرار يمس رئيسهم مرفوضا وقابلا للتظاهر ضده. وكان واضحاً أن التظاهرات التي خرجت في السودان منذ أيام جاءت احتجاجاً على "الإهانة" التي صدرت من محكمة الجنايات الدولية، والتي شعر بها السودانيون واعتبروها موجهة من الغرب إليهم كعرب.. وبالطبع ليست الأولى من نوعها ولكنها مؤثرة وهي غير مقبولة. العرب أدّوا واجبهم تجاه اتهام الرئيس البشير في هذه الأزمة، فقد انتقد وزراء الخارجية العرب في القاهرة ما اعتبروه "موقفا غير متوازن للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية"، الذي اتهم الرئيس السوداني بالإبادة الجماعية وطلب إصدار مذكرة توقيف بحقه... وشددوا على "أهلية القضاء السوداني" مؤكدين أنه "صاحب الولاية الأصيلة في إحقاق العدالة", في إشارة إلى أنهم يرغبون في تولي القضاء السوداني التحقيق في جرائم دارفور ما يسقط تلقائيا ولاية المحكمة الجنائية الدولية وفقاً للوائحها. بعض المسؤولين العرب اعتبروا ما قام به المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ينطوي على "خطورة التعامل غير المسؤول" مع الأوضاع في السودان، لأنه قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الأمني والسياسي، وقد يؤدي إلى الفوضى، ويجعل الدماء تسيل في دارفور... فإذا ذهب البشير إلى المحكمة، تسيل دماء السودانيين، وإذا بقي يستمر سيلان دماء هذا الشعب، فما هو الحل؟! الموقف العربي السريع والقوي "جميل"، لكن ليس دور جامعة الدول العربية حماية البشير فقط، بل عليها أن تعمل على حماية الشعب السوداني في دارفور، وأن تعمل على إيقاف القتل المجاني المستمر منذ سنوات!... لقد تحركت جامعة الدول العربية اليوم، لكن السؤال أين كان العرب منذ بداية أزمة دارفور قبل خمس سنوات؟ وبالتالي نتساءل: هل سيشعر العرب بالسودان أم يبقون في حالة من التجاهل والنسيان لهذا البلد؟ لقد نسي العرب السودان سنوات طويلة وعندما طالب العالم بمقاضاة الرئيس السوداني، تحرك العرب لإنقاذ الرئيس وليس لإنقاذ السودان! القادة العرب مطالبون اليوم بالتعامل مع شعوبهم بطريقة أخرى، وعليهم أن يعملوا من أجلهم، لأنهم هم الذين ينفعونهم وينفعون البلد وهم خط الدفاع الحقيقي والشرعي لحمايتهم، وبالتالي التعامل مع الشعوب بإنسانية أكثر وباهتمام أكبر سيكون مفيدا للجميع وللوطن قبل كل شيء... ومن المهم أن يبدأ "بعض" الرؤساء في التنمية البشرية والتنمية الشاملة في بلدانهم... فلا توجد دول في العالم فاشلة في التنمية كالدول العربية -أغلبها حتى لا أظلم المتميزين- وسنوات الفشل طالت كثيراً، وجاء الوقت كي تنتهي. حكومات العالم تتقدم بسواعد وعقول أبنائها، بينما حكومات العالم العربي ترتكب أفعالاً ضد الإنسانية وتكسر سواعد الأبناء، وتطمس عقولهم ويتهم رؤساء دولها في قضايا جنائية. العرب قاموا بدورهم الأخوي تجاه البشير، فقد هبوا لنجدته وأنقذوه -ولو مؤقتا- من إدانة، والشعب السوداني- حتى من يختلف معه وحكومته- ساند البشير ورفض تسليمه. أما البشير، فربما لم يعد أمامه إلا حلين الاستسلام للمحكمة الجنائية إذا كان مذنباً حقاً أو الاستقالة، إذا لم يكن مذنباً لأنه لم ينجح في إدارة أزمة دارفور وإيصالها إلى بر الأمان ولم يقدر على حماية أرواح أبناء شعبه، فمن الواجب أن يأتي من يستطيع أن ينهي هذه الأزمة، ويحافظ على السودان. أخيراً نؤكد على أن من المهم أن يدرك "بعض" الرؤساء العرب أن دورهم وعمل حكوماتهم هو الاهتمام بالبشر والعمل على تنمية المواطن والوصول إلى التنمية الشاملة في البلد. بمعنى آخر أنه لابد من أن يبدأ الحكام بالتفكير بطريقة جديدة، تتناسب ومتطلبات العصر، ولا تتعارض مع قوانينه الصارمة التي لا تفرق بين رئيس دولة وأي مطلوب للعدالة.