أماطت سجلات المحاكم الأميركية التي تم الإفراج عنها مؤخراً اللثام عن العالم السري للمستفيدين من الحرب في العراق. فحسب صحيفة "شيكاغو تريبيون" تكشف السجلات المعروضة أمام المحاكم كيف لجأت الشركات والمتعاقدون إلى أسلوب الابتزاز وتقديم الرشاوى للظفر بعقود في العراق لخدمة الجيش الأميركي حتى قبل أن تنطلق الحرب. وفي هذا الإطار وُجهت تهم إلى مسؤولين في شركة "كي. بي. آر" الأميركية التي فازت بأحد أكبر العقود في العراق، فضلاً عن ضباط في الجيش الأميركي لتورطهم في تهم مرتبطة بالعقود وطريقة الحصول عليها. وبالإضافة إلى ذلك أظهر تحقيق قامت به صحيفة "بوسطن جلوب" كيف أن إحدى الشركات الكبرى المتعاقدة مع الجيش الأميركي في العراق، (كيلوج براون أند روت)، والتي كانت حتى فترة قريبة أحد الفروع التابعة لشركة "هاليبرتون" تهربت من دفع مئات الملايين من الدولارات المستحقة عليها كضرائب، وذلك من خلال توظيف عمال عبر شركات وهمية في جزر "كايمان". ولا يتعلق الأمر بجشع الشركات الأميركية وسعيها الحثيث وراء الربح وجني الأموال الطائلة فحسب، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في التداعيات المترتبة على ذلك بالنسبة للاقتصاد العراقي الذي لن يكون بمقدوره فك الارتباط مع تلك الشركات وسيطرتها على دواليبه. غير أن التربُّح من الحرب، وتكوين ثروات كبيرة على حساب دافعي الضرائب الأميركيين، لا يقتصر على الشركات المتعاقدة مع الحكومة الأميركية، بل يمتد أيضاً إلى الشخصيات العامة ذات الوزن الكبير في الإدارة الأميركية مثل نائب الرئيس "ديك تشيني". فقد استفادت شركة "هاليبرتون" التي تمتلك 58 فرعاً في جزر الكاريبي باعتبار تلك المنطقة جنة ضريبة، من علاقات "تشيني" حتى قبل أن يدخل السياسة، حيث انخفض حجم المدفوعات الضريبية للشركة تحت قيادة "تشيني" من 302 مليون دولار في عام 1998 إلى "صفر" في عام 1999. وعندما ترك "تشيني" الشركة، وأصبح نائباً للرئيس بوش، لم يقطع علاقته تماماً بـها، حيث استفادت من عقود حكومية تصل قيمتها إلى 18.5 مليار دولار، بما في ذلك 7 مليارات دولار من العقود لتأهيل البنية التحتية للنفط في العراق خارج إطار المناقصات. وقد خلص تقرير لوكالة التدقيق المالي الفيدرالية بشأن عقود الدفاع إلى أن شركة "هاليبرتون" بالغت في تقييم فواتيرها التي ستدفعها لها الحكومة الأميركية لقاء خدماتها لتصل إلى 1.4 مليار دولار، بحيث حاولت الشركة أن تدفع الحكومة إلى تسديد فواتير ضخمة مقابل خدمات مبالغ في سعرها. وبخلاف إصرار "تشيني" على نفي أي علاقة له مع "هاليبرتون"، تشير التحقيقات التي طالت التعاملات المالية للشركة إلى استمرار تلقي "تشيني" لراتب شهري من الشركة حتى عام 2004. والحقيقة أن نائب الرئيس "تشيني" ليس الوحيد الذي استفاد من علاقاته الشخصية مع الشركات المتعاقدة مع الحكومة الأميركية في العراق، فحسب مؤسسة "الديمقراطية الصاعدة" بالولايات المتحدة فقد استفاد أيضاً أفراد من عائلة الرئيس بوش نفسه. فقد استعانت شركة "كريس" بخدمات الأخ الأصغر للرئيس بوش "نيل مالون" لمساعدتها في إسداء المشورة للشركات التي تتطلع إلى تأمين عقود في العراق مع الحكومة الأميركية. ويحضر بقوة على لائحة المستفيدين أيضا أخ آخر لبوش وهو "مارفين"، الذي يعد أحد مؤسسي شركة "وينستون بارترنرز"، بحيث يسهر على تسهيل عملية الفوز بعقود أمنية في العراق لشركات ومؤسسات تتعامل معه. وأشارت التحقيقات إلى أن "مارفين" له علاقات بشركة تدعى "نور" ادعت أن لديها خبرة وتجربة في مجال التدريب العسكري وتأمين الأسلحة. وفي هذا الإطار حصلت شركة "نور" تلك على 327 مليون دولار ضمن عقد ينص على تجهيز القوات المسلحة العراقية وفيلق الدفاع المدني بالمعدات الضرورية. وتعاونت الشركة مع "أحمد الجلبي" الذي لعب دوراً معروفاً في التحريض على حرب العراق والتماس المسوغات المغلوطة لانطلاقها ليتبين بعد التحقيق أن الشركة المعنية لا تملك أي خبرة في تجهيز القوات المسلحة. وأكثر من ذلك فقد حصل المرتزقة والمغامرون على حصتهم من الكعكة العراقية وتمكنوا من الفوز بعقود حكومية. فعندما شد "سكوت كاستر"، و"مايكل باتلز" الرِّحال إلى العراق لم يكن لديهما رأس المال، أو حتى الخبرة الضرورية، ومع ذلك حصلا على عقد أمني بملايين الدولارات، واستلما مليوني دولار نقداً كدفعة أولى. وفيما كان يعمل المسؤولان في الإدارة الأميركية، "جيمس وولسي" و"ريتشارد بيرل" كمستشارين لوزير الدفاع الأميركي السابق "دونالد رامسفيلد" في فن شن الحرب على العراق، كانت استثماراتهما في الشركات المتعاقدة مثل "بوينج" تتضخم مع مرور الأيام خطوة بخطوة مع تعالي دقات طبول الحرب. ولم تستثنِ لائحة المستفيدين من الحرب في العراق أعضاء الكونجرس بمن فيهم الذين كانوا يعقدون جلسات استماع حولها، حيث أفاد الموقع الإلكتروني FedSpending.org بأن 151 عضواً في الكونجرس استثمروا ما بين 78.7 مليون دولار و195.5 مليون دولار في الشركات التي حصلت على عقود تصل على الأقل إلى خمسة ملايين دولار في عام 2006. ولا ننسى أن الشركات البريطانية كانت حاضرة هي الأخرى في الاستفادة من فتات "مأدبة" الحرب، حيث كشف تحقيق أجرته صحيفة "الإندبندت" أن 61 شركة بريطانية حصلت على 1.1 مليار جنيه إسترليني من خلال العقود الحكومية في العراق. وتنخرط الشركات البريطانية أيضاً في جهود على أعلى المستويات لإعادة الهيكلة السياسية والاقتصادية للبلاد، ما يعني أن العراق سيظل مرتهناً لتلك الشركات لسنوات قادمة. ويُظهر المدى الذي تغلغلت فيه الشركات الأميركية والبريطانية في العراق، وارتباط شخصيات مؤثرة بتلك الشركات صعوبة التفكير الجدي من قبل المسؤولين الأميركيين في انسحاب حقيقي قريب لقوات الاحتلال من بلاد الرافدين.