فجرت ثلاث انتحاريات يوم الاثنين الماضي أنفسهن في مواكب للزوار الشيعة، المتوجهين إلى حي الكاظمية شمال بغداد، للمشاركة في إحياء ذكرى وفاة الإمام الكاظم، ما أدى إلى مقتل أكثر من 28 شخصاً وجرح أكثر من 90 آخرين. وكانت زيارة الكاظمية قد شهدت في عام 2005 واحدة من أكبر الخسائر في الأرواح في حادث واحد عندما سرت شائعات عن هجوم بالقنابل، مما جعل الزوار يتدافعون أثناء عبور جسر يؤدي إلى الضريح. وقتل في الحادث ما يصل إلى ألف شخص. من هؤلاء اللاتي فجرن أنفسهن؟ الإجابة السريعة أنهن نساء سُنيات -عدوات الشيعة- ولكن تبقى هذه فرضية غير أكيدة بالضرورة. والسؤال الأهم ما الذي دفع ثلاث نساء مسلمات إلى قتل أنفسهن وقتل مدنيين أبرياء يسعون الى ممارسة شعائرهم الدينية؟ مهما كانت الإجابة على السؤال، فإن الفعل يؤكد أن هناك فتنة وهناك محرضين قادرين على التأثير والإقناع بالقتل. في لبنان اشتعلت الفتنة الشيعية السُنية، وما زالت تأثيراتها حتى الأيام القليلة الماضية، حيث قُتل عدد من أبناء الطائفة السُنية والعلوية في طرابلس بعد تبادل لإطلاق النار. وقبل ذلك الفتنة في الكويت بعد مقتل عماد مغنية وقيام بعض النواب الشيعة بإقامة مأتم له، وهو المتهم بمحاولة اغتيال أمير الكويت السابق. وهناك فتنة أخرى في مصر ظهرت منذ أيام بعد إنتاج إيران الفيلم السينمائي "إعدام الفرعون"، وهو يحكي قصة السادات واغتياله في ساحة عرض عسكري عام 1981 برصاص "إسلاميين". وسيتم الرد عليه بفيلم مصري عن الخميني واسم الفيلم "إمام الدم"، وقد يكون القادم أسوأ. البعض يرى أن أميركا هي التي قامت بإشعال الفتنة بين السُنة والشيعة في القرن الواحد والعشرين بعد احتلالها للعراق من أجل بسط سيطرتها الكاملة، ليس على العراق بل على المنطقة. والبعض الآخر يرى أن إيران قدمت المال والسلاح في العراق من أجل تأجيج الفتنة بين السُنة والشيعة العراقيين لتحقيق أغراض ومكاسب سياسية. وهناك من يرى أن الفتنة موجودة ولم تكن بحاجة إلا إلى القليل من الإثارة لتنفجر. وفي كل الأحوال، فإن الحقيقة الثابتة أن الفتنة لا تنمو إلا في الأرض الفاسدة، وأن هناك من يسعى إلى زرع الفتن، وخلق الصراعات بين أصحاب الأفكار والمذاهب في المنطقة وخاصة أهل السُنة والشيعة، وتحويل الوضع في المنطقة العربية إلى صراع دائم. اما الحقيقة الأخرى هي أن الشيء الوحيد الذي يتفق عليه السُنة والشيعة اليوم، هو أن يقتلوا أنفسهم. لا أحد يُنكر أن هناك جهوداً من أجل فتح باب الحوار بين المذاهب الإسلامية، آخرها كان المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار بين المذاهب الإسلامية بمكة المكرمة في شهر يونيو الماضي برئاسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والذي شارك فيه 500 من الشخصيات والعلماء البارزين في العالم الإسلامي وأبرزهم علي أكبر هاشمي رافسنجاني رئيس مجلس خبراء القيادة في إيران، الذي طالب أتباع المذاهب المختلفة بالتركيز على القواسم المشتركة. وهذه هي النقطة المهمة، فالقواسم المشتركة هي طوق النجاة لأصحاب المذهبين السُني والشيعي وللمسلمين بشكل عام، وهذا الكلام يجب أن يتحول إلى أفعال بالنسبة للـ500 عالم الذين حضروا المؤتمر. التركيز على نقاط الاتفاق ممكن إذا أردنا ذلك، فإذا كان السُنة والشيعة يؤمنون بأركان الإسلام الخمسة -مع بعض الاختلافات البسيطة- من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت. وإذا كانت -في الأساس- العقيدة واحدة والعبادات واحدة, وإذا كان الغلاة في الدين منهم من ينتسب للسُنة ومنهم من ينتسب للشيعة، فكيف لا يكون الاتفاق ممكناً؟ إلا إذا استسلمنا للغلاة كي يقودوا السُنة والشيعة. الحقيقة أن لدى السُنة سلبيات وأخطاء ومبالغات، كما أن لدى الشيعة ذلك، والطرفان وجد كل واحد منهما مادة من التراث الإسلامي يستخدمها بعنف ضد الآخر -ليس هناك طرف أفضل من الآخر- وإذا كان الشيعة والسُنة في الأساس مسلمين ومتفقين على أساس الدين وعقيدته, وإذا كان الخلاف في الفرعيات وليس في الأصول والعقيدة، فلماذا الفرقة؟ ولماذا الخلاف؟ ولماذا لا يعود الفريقان إلى فريق واحد ويكونون مسلمين بدلاً من هذه الاختلافات الحادة والقاتلة؟ أدرك تماماً أن طرح هذا السؤال وكتابة هذا المقال أمر سهل -كما سيقول البعض- ولكن التطبيق والعمل على التقريب مهمة أقرب إلى الاستحالة، لكنني لا أعتقد أن هناك مستحيلاً ومن يروج لذلك، ما هم إلا مثيرو الفرقة ودعاة للتطرف من الجانبين وهم غالباً من العلماء المتطرفين، أما المسلمون من كلا الطرفين، فبلاشك أنهم ينتظرون هذا اليوم ويتمنونه. لن ينصلح حال الإسلام والعلاقة بين أبناء المذهبين الشيعي والسُني مادام أولئك المتطرفون من العلماء الذين يغذون نقاط الخلاف بين المسلمين موجودين. فالمسلمون كثير منهم لا يعرفون حتى الفرق بين السُنة والشيعة، ولا ينتبهون إلى نقاط الاختلاف إلا بعد أن يثيرها أولئك العلماء؛ فبين عالم سُني متطرف وآخر شيعي متطرف، ضاع المسلمون وانقسموا. فمن ينهي هذا الجدل؟ ومتى ينتهي كي يعيش المسلمون دون أكاذيب الخلافات التي يثيرها المتطرفون من كل جانب؟ نحن اليوم بحاجة إلى جيل جديد من علماء المسلمين (سُنة وشيعة)، والتخلص من مجموعة العلماء التقليديين المتطرفين في آرائهم والمثيرين للفتنة المذهبية، صار أمراً في غاية الأهمية واستبدالهم بعلماء معتدلين يضعون مصلحة الإسلام والمسلمين نصب أعينهم ويقربون بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين بدلاً من التركيز على نقاط الخلاف والاختلاف وتبادل الاتهامات والتكفير في بعض الأحيان. يجب أن يحصل العلماء المتنورون أصحاب الأفكار المعتدلة على الدعم وهذه مسؤوليات المجتمعات بالدرجة الأولى، ثم هي مسؤولية أولي الأمر، لأن هؤلاء من دون دعم أو مساندة لن يكون لهم وجود، لأنهم في الغالب يحاربون بضراوة من قبل العلماء التقليديين الذين يعيشون على الخلافات ويعتاشون من الفرقة بين المذاهب. هناك قصة معبرة في مسألة الخلاف السُني الشيعي، فيُقال إنه في القرن الخامس الهجري، أُثيرت فتنة في بغداد بين الشيعة والسنة، راح ضحيتها الكثير من الطرفين، وتدخل العقلاء من الطرفين فهدأت، فأراد بعض المغرضين إيقادها من جديد، فجاؤوا إلى العلامة ابن الجوزي، الذي كان يحضر دروسه الشيعة والسُنة على حد سواء، فقام أحدهم وسأله السؤال التالي: أيهما أفضل أبوبكر أم علي؟ فأجابه ابن الجوزي (أفضلهما الذي ابنته تحته). ففهم السُنة أنه أبوبكر، لأن ابنته عائشة تحت الرسول عليه الصلاة والسلام، والشيعة فهموا أنه الإمام علي لأن ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام فاطمة تحته فماتت الفتنة في مهدها. قد يكون من المهم أن نعود إلى التاريخ ونستفيد من المواقف والتجارب المنيرة في درء الفتنة التي كانت تجد من يثيرها بين الفترة والأخرى، ونحن بحاجة إلى أمثال ابن الجوزي بيننا اليوم، وقد يكونون موجودين ولكنهم بحاجة إلى من يدعمهم ليستطيعوا أن يقاوموا المتطرفين من الطرفين.