منذ أكثر من ثلاثين عاماً ونحن نسمع ونقرأ عن تطوير الجامعات الخليجية، وجعلها أكثر تفاعلاً مع متطلبات المجتمع ومشكلات وآماله. كما نسمع ونقرأ عن أفكار جديدة -أغلبها مستورد من الخارج- تتحدث عن ضرورة إحداث "انقلاب" على القوالب البالية في المناهج وأساليب توصيل المعلومات إلى الطلبة، التي ما عادت تناسب العصر ولا تفي بمتطلبات التنمية، لتكون على غرار تلك الأميركية والغربية. وأن لغة التحضر ومتطلبات سوق العمل، ما عادت تحفل بذاك "الحشو" اللامحدود من قواعد اللغة العربية ونحوها وصرفها وبديعها وبيانها، وكذلك الوقائع التاريخية الموغلة في الإسهاب والإطناب وأغلبها غير صحيح. لذلك فإن "الانقلاب" التعليمي هو الوسيلة الأنجع لإنقاذ جيل الطلاب من "جهل" المناهج ورتابتها وتقليديتها. قد يكون في هذا الحديث "الزعم" شيء من الصحة. فموظف الكمبيوتر أو مهندس الكيمياء قد لا يحتاج إلى كل ذاك التركيز على قواعد اللغة العربية وآدابها، أو على التاريخ أو الجغرافيا. كما أن ظاهرة عزوف الطلبة عن الانخراط في سلك التدريس، وتبديل المناهج في المدارس، يجعل تدريس المواد في الجامعات أمراً غير ضروري، ولا طائل منه. ولكن هنالك اتجاهاً جانحاً وملحوظاً نحو تحويل كل المناهج التعليمية إلى اللغة الإنجليزية. وهذا ليس في صالح العملية التعليمية، لأن الجوار الجغرافي للطالب أمر مهم جداً في هذه العملية، ولا يجوز سحب الطالب من بيئته المحلية ولغته العربية وتاريخه ومشاعره الوطنية، كي يتحول إلى "روبوت" في ماكينة العمل المستقبلي بلا مشاعر. إذ إن جزءاً من مهام الجامعة هو تكوين الطالب ذهنياً ونفسياً وعلمياً لمواجهة الحياة. ونحن نعتقد أن الثقافة العربية جزء مكمل للثقافات الإنسانية كافة، ولا يجوز "بتر" الجزء العربي هذا ضمن اتجاهات التعليم الجديدة. نحن ندرك أن بعض الجامعات الخليجية "تنوءُ" تحت إرث إداري وأكاديمي قديم، وكان من ضمن ملاحظاتنا عن بعض الجامعات الخليجية ما يلي: 1- هيمنة فكر عقائدي معين يتحكم في عملية وضع المناهج، وكذلك عمليات التوظيف وجلب القوى البشرية التي تتحالف مع هذا الفكر. وهذا يضر بالعملية التعليمية، إذ ليس من المعقول أن يبقى مدير الجامعة لعشرة أو خمسة عشر عاماً دون تغيّر! إنه في هذه الحالة "يتكلَّس". وكثير من الجامعات الراقية -التي يستوردون منها العِبر- تكون رئاسة الجامعة وعمداء الكليات فيها دورية، وذلك لإعطاء المدير أو العميد فرصة البحث والتجديد وقراءة الأفكار الجديدة البعيدة عن انشغالاته الإدارية والمالية. وبطبيعة الحال تتاح الفرص للأكاديميين الآخرين ليأخذوا نصيبهم في "الوجاهة"، وكذلك "الترزز" أمام المسؤولين، وهذا حقهم. 2- معاداة الأفكار الأخرى التي لا تنسجم مع ذاك الفكر، وإن كانت نيرةً ومفيدة للجامعة والمجتمع. ويتم هذا عبر تحزُّبات واجتماعات سرية بين بعض المتنفِّذين في الجامعات، بقصد حصر أصحاب الرؤى المستنيرة والبحث عن وسائل إقصائهم أو إنهاء عقودهم بطرق تعسُّفية، سواء كانوا من المواطنين أم من الوافدين. 3- غلبة التوجه "الكهنُوتي" المُضر بسمعة الجامعة على القرارات والممارسات الجامعية، بحكم أن الجامعة "حصن" منيع، لا يجوز تناول أي مثلبة تقع فيه، خصوصاً إن كان رئيس الجامعة من المتنفذين، وبالتالي "تجبن" الصحافة عن نقد الجامعة، ويتردد الصحافيون عن الخوض في أمور الجامعة، على رغم أن الجامعة تدرّس الطلبة -في كليات الإعلام- أهمية حرية النشر والرأي العام وديمقراطية الحوار. وهذا التناقض بين التنظير والممارسة يجعل من الجامعة "قصراً" منيفاً لا يتفاعل مع هموم المجتمع، بقدر ما يهتم باحتفالات التخرج وألوان "الأرواب"، والزج بالطلبة والطالبات في أتون حرب الوظائف دونما تخطيط مسبق بين احتياجات سوق العمل وترتيب توظيف الخريجين في المجالات التي درسوها. 4- محاربة إدارة الجامعة لأعضاء هيئة التدريس ممن يمتلكون ناصية الكتابة؛ أو الذين لهم حضور إعلامي. وهذه طامة كبرى، إذ إن الأكاديمي/ المدرس يكسب ثقة له وللجامعة إن تحدث في مجال تخصصه، وظهر على الفضائيات أو كتب في الصحافة كوجهٍ من وجوه الجامعة. لكن ثقافة "الحسد" وقصر النظر لدى البعض -خصوصاً المسؤولين الذين لديهم منظار واحد للحياة، ويكرهون نجاح الآخرين- يجعل هذا الناجح والمتحدث اللبق محل نقد، وبالتالي يتم تدبيج التهم له، ومضايقته حتى يترك الجامعة، خصوصاً إن كان من المواطنين. 5- شعور عام تجاه الأكاديميين الخليجيين بأنهم غير أكفاء، ونحن لا ندري لماذا يتم تشويه سمعة الكادر الأكاديمي الوطني بهذه الصورة؟ ولمصلحة من يتم ترويج أكاذيب وافتراءات ضد الكوادر الوطنية كي تترك الجامعة، أو تصل ملفاتها إلى الجهات السرية كي يتم فصلها من الجامعة. وهذه نغمة "نشاز" بدأت ترتفع في سماء بعض الجامعات الخليجية. يتم هذا في الوقت الذي "يعشش" في هذه الجامعات مدرسون أكل عليهم الدهر وشرب، وهم قابعون يكررون محاضراتهم منذ عشرين عاماً أو أكثر، ولم يسبق لهم أن عاصروا أو اطلعوا على المفاهيم الجديدة في تخصصاتهم نفسها، بل يوجد ضمن هيئات التدريس من لم يدرسوا علم الاتصال، وبالتالي نجد تواصلهم مع الطلبة ضعيفاً، ويعمدون إلى "ترويع" الطلبة والطالبات بالحفظ والمذكرات الصفراء والتهديدات التي تجرح شخصية الطالب. 6- غياب مفاهيم الحرية الأكاديمية، وغياب الحوار المسؤول داخل الجامعة. وهذا مخالف للدساتير والمبادئ العامة التي تحكم أصول التعامل مع الطلبة. فمدير الجامعة "حاكم بأمر الله" لا يناقشه أحد، خصوصاً إن كان من النافذين المتنفذين (ذوي الظهور القوية)! فكيف تخلق الجامعة مجتمعاً طلابياً تنتظره انتخابات ديمقراطية في المستقبل إن كان الطالب في مرحلة مهمة من تكوينه لا يمارس هذه الديمقراطية، ولا يكون له رأي في المناهج وفي أساليب التدريس، وفي الأدوار الأساسية للجامعة خارج أسوار الجامعة؟ وكيف تخلق الجامعة مناخاً يتاح فيه السؤال والرد، وفيه تحكيم العقل لا النفوذ؟ إن من أوائل مبادئ تأهيل الطالب كي يكون إنساناً محترماً، وله رأيه الذي يدافع عنه وله شخصيته بكل اتجاهاتها -طالما أنها لا تتعدى على شخوص الآخرين- وله الجرأة في أن يقول كلمة الحق ولو أمام مدرس "جائر"، أن يعيش في مناخ حُر وديمقراطي. فالمفترض في الجامعة أن تكون الملاذ الآمن لجميع الأفكار كي "يتخلَّق" طالب قادر على التعامل مع معطيات العصر، وليس أن يخرج منها من يفك الخط، كما يفكون البراغي في مدارس الصناعة. نعتقد أن الكهنوت الأكاديمي، والرهبة التي تفرضها بعض الجامعات على المناخ الجامعي ليست في صالح الطلبة ولا الجامعات. لأن المناهج المستوردة والمؤسسات الاستشارية المنتشرة في دول الخليج تحمل ضمن ما تحمل مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا يجوز أن يتم "انتقاء" المواضيع والتوجهات حسب ظروف كل جامعة أو مزاج القائم عليها، بل إن الموضوع كله عبارة عن حزمة (Package) يؤخذ كله أو يترك كله. إننا ندرك أن نظام التعليم العربي نظام عقيم وغير صالح لهذا العصر، ولكن ماذا نفعل إذا كان قدَرنا أن نكتشف الأخطاء ونجاهر بها بعد مئة عام من حدوثها؟ وهذا ما حدث في بلد عربي عريق في التعليم، حيث اكتشفوا -قبل سنوات- أن مناهج الثانوية كانت فاشلة ولا تحقق أهداف التعليم. ولكن في ذات الوقت، فإن استيراد نظام أجنبي يسلخ الطالب من ثقافته وقيمه وتقاليده، أيضاً له مخاطر تعرض الطالب للاستلاب الثقافي والتغريب، وشعوره بالانعزال، وعدم قدرته على المساهمة في حراك مجتمعه. ناهيك عن جعله "عبداً" للوظيفة التي تأهل لها، وبالتالي ينسى واجباته الوطنية والأخلاقية. نحن بحاجة إلى تطوير جامعاتنا، لكننا نعتقد أن أولى خطوات التطوير تبدأ بتحرير الجامعات من هذا الكهنوت الضار، وجعلها واحة، الكل يقول فيها كلمته -كما الجامعات الأميركية والأوروبية- والكلمة الفصل هي الراجحة والعاقلة. وتطوير الجامعات يحتاج إلى قرارات حاسمة بتغيّر "الأطقم" كل أربع سنوات، وعدم تحويل الجامعة إلى "عزبة" للمدير أو من حوله، خصوصاً في ظل الهجرة الكبيرة إلى أرض "الفراديس" في الخليج.