إلى وقت قريب كان يعتقد مدراء الشركات الأميركية والمسؤولون الحكوميون أن ازدهار البلد وتقدمه يمر بالضرورة عبر طبقة وسطى قوية تنشأ من القاعدة وترتقي إلى الأعلى. في تلك الفترة كان العمال يكافأون نظير الجهد الذي يبذلونه برواتب عادلة، وبمكاسب تضمن لهم فرص الترقي، وتزامن ذلك كله مع ازدهار اقتصادي عام واستتباب للأمن القومي. ولأن "هينري فورد" كان يعرف كل ذلك، فهو كان يقول دائماً إن استمرار شركته في التقدم والازدهار مرهون بتقاضي عماله ما يكفي لشراء السيارات التي يصنعها. أما في العام 1953 عندما صرح رئيس "جينرال موتورز" أمام مجلس الشيوخ بأن "ما يفيد البلد يفيد أيضاً جنرال موتورز والعكس صحيح"، فإنه كان يحيل إلى الاعتقاد السائد بأن نجاح الشركات الأميركية يترتب عليه نجاح عام لأميركا وللعمال. لكن وعلى امتداد الخمس وعشرين سنة الماضية، لا سيما في العقد الأخير لم تعد مصلحة الشركات ومصلحة أميركا والعمال واحدة. فقد تحولت ثقافة الشركات الحالية إلى تغليب الأرباح وتعظيمها على المدى القريب ورفع مداخيل المساهمين، في حين أُغفلت مصلحة أميركا ككل وغيبت عن الساحة. هذا الانفصام بين المصلحة الوطنية من جهة ومسؤولية الشركات من جهة أخرى أضر بالعقد التقليدي مع الطبقة الوسطى وأخل بالتوازنات الضرورية. وفي مثال واضح على الخلل الموجود في أميركا اليوم الذي توثقه بيانات العامين 2005 و2006 يعادل دخل 1% من الأميركيين- 300 ألف- ما يكسبه 150 مليون نسمة مجتمعة. فقد وصلت الفوارق في الدخل إلى أعلى مستوى لها منذ 1928، بحيث بلغ دخل 1% من دافعي الضرائب 100 مليون دولار، وهو المبلغ ذاته الذي خسره 80% من دافعي الضرائب الأميركيين. وغالباً ما تلجأ الشركات الكبرى لتبرير سلوكها، مهما أضر بالعمال وبالاقتصاد الوطني، إلى التذرع بالحاجة إلى تعزيز القدرات التنافسية والتصدي لإكراهات العولمة. لكن العولمة لا تعني انعدام الأمن الوظيفي والركود في أجور العمال، أو غياب الرعاية الصحية وافتقادها من قبل 75 مليون أميركي. وليس من الضروري أن تؤدي العولمة إلى انتقال الوظائف إلى الخارج والتقليص من المكاسب الاجتماعية فقط لأن الشركات الكبرى لديها القدرة على تحريك رؤوس الأموال والتكنولوجيا عبر الحدود الوطنية، فيما يعاني العمال من التداعيات السلبية لذلك، ناهيك عن أن العولمة لا تعني بالضرورة تخصيص تعويضات مبالغ فيها لمدراء الشركات ومنحهم امتيازات شخصية تعفيهم من دفع الضرائب، وهي لا تعني أيضاً الاستمرار في الممارسات التجارية غير العادلة التي تساهم بشكل كبير في إحداث الفوارق الشاسعة في الدخل. ومن المفيد الإشارة هنا إلى المسارات المختلفة التي اختطها شركاؤنا التجاريون في العالم والأساليب التي اعتمدوها للتقليل من أضرار العولمة. فقد انتهجت تلك الدول سياسات اقتصادية ترمي بالأساس إلى الحفاظ على فرص العمل وتحسين ظروفه، فضلاً عن تشجيع الشركات الأجنبية على نقل وحداتها الإنتاجية والتكنولوجية إلى أراضيها، وهو الأمر الذي نلاحظه في البلدان الآسيوية، وبخاصة في الصين حيث 60% من صادراتها تنتجها الشركات الأجنبية العاملة فوق أراضيها. وفي هذا الإطار، يتعين على الولايات المتحدة التعامل بنفس الطريقة التجارية، كما يتعين علينا مواجهة الدعم غير الشرعي الذي تقدمه الحكومات لقطاعات اقتصادية معينة، فضلاً عن التلاعب بسعر صرف العملات والممارسات المجحفة في مجال العمل والبيئة التي يتم استغلالها لضرب اقتصادنا الوطني. أما على الصعيد الداخلي، فعلينا التوقف عن تشجيع نقل الملايين من الوظائف الأميركية إلى الخارج. ولا ننسى أنه بالتزامن مع ذلك يتعين علينا التركيز على الرابط بين ازدهار الشركات الأميركية وتحقيق الرخاء للعمال الأميركيين، وذلك بأن تدار الشركات بنفس القدر من المسؤولية تجاه المساهمين والعمال والمجتمع. ولتحقيق ذلك لا بد أولاً من إصلاح الشركات من الداخل بتعزيز أصوات العمال، كما يتعين الحد من التعويضات الضخمة التي يحصل عليها المدراء عبر التشديد على المزيد من المحاسبة والشفافية. وفي هذا السياق يتعين على الرئيس الأميركي المقبل وإلى جانبه الكونجرس صياغة عقد جديد لمحاسبة الشركات يستند إلى جملة من الإصلاحات الضرورية يأتي في أولها تحديث القوانين المنظمة للعمل، ومنح العمال قدرة أكبر على التعبير عن انشغالاتهم. فلمساعدة 60 مليون عامل، التي أظهرت الأبحاث استعدادهم للانضمام إلى الاتحادات العمالية إذا أعطيت لهم الفرصة، يتعين على الكونجرس تمرير قانون "حرية الاختيار للموظف"، الذي يتيح للعمال تنظيم أنفسهم. لكن بالإضافة إلى العمال يتعين أيضاً تعزيز حقوق المساهمين بمنحهم الحق في تحديد تعويضات المدراء والدعوة إلى عقد اجتماعات دورية وتحديد قائمة مجلس الإدارة. وفي كل ذلك يتعين الالتزام بتعهدات المتقاعدين والحفاظ على معاشاتهم وتخصيص جزء من المبيعات لهم في حالة فقدانهم للتغطية الصحية والتعويضات المعاشية. وأخيراً لا بد من إعادة التأكيد على المحاسبة وإقرار المزيد من الشفافية من خلال سن قوانين تلزم الشركات بنشر تقارير سنوية تُضمنها معلومات وافية وفي متناول المساهمين. ليو هندري ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس مبادرة "العولمة الذكية" بمؤسسة "أميركا الجديدة" ومستشار اقتصادي للمرشح "الديمقراطي" باراك أوباما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"