طوال فترة الحرب الباردة كانت للولايات المتحدة الأميركية استراتيجية أمنية قومية تحظى بدعم دولي كبير، تركز اهتمامها على ردع التوسع الشيوعي والحد من نفوذه. وعلى نقيض تلك الاستراتيجية تماماً، تبنى الرئيس بوش استراتيجية جديدة في إطار الإعلان عن حربه على الإرهاب، قوامها تعزيز الهيمنة العسكرية الأميركية عن طريق شن الحروب الوقائية الاستباقية. وفي عالم تزداد خطورته يوماً بعد الآخر، يستعيد فيه تنظيم "القاعدة" قوته وقدرته على تدبير الهجمات، وتتسع فيه شبكة الإرهابيين في كل من أوروبا وشمالي أفريقيا... من الحري بالمرشحين الرئاسيين أن يتصديا لمناقشة تأثير هذه الاستراتيجية على الأمن القومي الأميركي، ومدى قدرتها على الارتقاء إلى مستوى العقيدة الحربية. يذكر أن "شارلي جيبسون"، المذيع الرئيسي بقناة "إي بي سي نيوز"، قد بدأ مناقشة تركة إدارة بوش في المجال الأمني على مستوى السياسات والتطبيق. لكن للأسف لم تؤد مناقشته لهذه السياسات سوى إلى إفساد هذا الأمر الحيوي. ففي حوار أجراه الأسبوع الماضي مع سارة بالين، مرشحة الحزب الجمهوري لمنصب نائب الرئيس، وصف جيبسون تلك السياسات بأنها ابتكار سياسي، قصد به الرئيس بوش الإعلان عن أن للولايات المتحدة حق الدفاع المسبق عن نفسها أمام أي اعتداءات محتملة على أمنها! تجدر الإشارة إلى أن الجزء الغالب من هذه الاستراتيجية كان قد أرسي في وثيقة استراتيجية الأمن القومي لعام 2002، وهي الوثيقة التي قال فيها بوش إنه يحق بل يجب على الولايات المتحدة أن تبادر بتوجيه الضربات الاستباقية للهجمات الإرهابية. والواقع أن العمل الاستباقي لا يستخدم عادة إلا لمكافحة خطر واضح ووشيك. أما الهدف الحقيقي من جعل إدارة بوش نهج الحرب الاستباقية خياراً مفتوحاً، فيتجلى في غزوها للعراق. فعلى طريق الهرولة نحو شن الحرب، عمد بوش إلى وصف صدام حسين بعدة نعوت، منها على سبيل المثال كونه "تهديداً خطيراً" تارة و"خطراً متصاعداً" تارة أخرى، غير أنه لم يصفه مطلقاً بكونه "خطراً وشيكاً". وهذا هو أساس استراتيجية بوش الاستباقية التي وصفها الكثيرون بأنها نهج حربي أمني. وهكذا أمكن لأميركا التي لم تضع يدها ولم تطلع العالم على أي خطر أمني وشيك عليها، ولم تحظ بما يلزم من إجماع دولي على الفعل العسكري الذي تزمع القيام به... غزو دولة أخرى واحتلالها بمزاعم الدفاع عن النفس. وفي عالم بخطورة العالم الذي نحن فيه الآن، فإنه لا مناص من وصف هذه الاستراتيجية بالخطر، ولابد أن يتصدى لمناقشة عواقبها وتداعياتها على أمننا القومي، كل من واضعي السياسات الأميركية والمرشحين الرئاسيين، فضلاً عن عامة الشعب. ولم تورط هذه الاستراتيجية بلادنا في المأزق العراقي الذي أسفر عن مصرع ما يزيد على 4 آلاف من جنودنا، وصرف جهودنا وأنظارنا عن جبهات أشد خطراً علينا مثلما هي الحال في كل من أفغانستان وباكستان فحسب، بل وفرت الاستراتيجية نفسها فرصة ذهبية لدول أخرى كي تحذو حذونا في العمل الحربي الاستباقي. ففي شهر يوليو المنصرم، اقترحت إدارة بوش تخصيص ما يزيد على 200 مليون دولار لمساعدة باكستان على تطوير أسطولها الجوي من مقاتلات F-16 مع العلم أن هذا الأسطول يبدو أكثر فائدة لباكستان في خوض حرب محتملة مع جارتها الهند، من استخدامه في العمليات الحربية التي تستهدف ضرب التمرد الإرهابي داخلها، خاصة في المناطق القبلية الحدودية المشتركة بينها وجارتها أفغانستان. وبعد أن أشارت أصابع الاتهام إلى ضلوع عناصر من جهاز المخابرات الباكستانية في تدبير الهجوم الإرهابي على السفارة الهندية في كابول، في شهر أغسطس الماضي، ازدادت احتمالات شن الهند حرباً استباقية على جارتها باكستان. والأكثر إثارة للقلق والمخاوف في التطورات الأمنية بين الدولتين الجارتين، أن يستخدم نهج بوش في الحروب الاستباقية، والذي أصبح بمثابة سابقة استراتيجية أمنية خطيرة، مبرراً دفاعياً في شن حرب خطيرة كهذه! ولا يقتصر قرار إدارة بوش بإضفاء شرعية على الحرب الاستباقية، على كونه يقدم سابقة خطيرة لأي دولة تفكر في اتخاذ إجراء استباقي ضد دولة أخرى فحسب، بل أعاق ذلك القرار حق الأميركيين في إجراء حوار عام حول تداعيات وتأثيرات هذه الاستراتيجية على الإدارة المقبلة. وعليه فإنه من واجب المرشحين الرئاسيين والمرشحين لمنصب نائب الرئيس في كلا الحزبين الرئيسيين، مناقشة هذه الاستراتيجية وإطلاع الجمهور الأميركي على نواياهم الخاصة بالتعامل مع تركة بوش الأمنية هذه. وفي تقديرنا أن مناقشة هذه الاستراتيجية هو واجب أكثر أهمية وإلحاحاً من مناقشة كيفية انسحابنا من العراق. يذكر أن الأدميرال مايك مولين، رئيس أركان الحرب المشتركة، كان قد دعا مؤخراً إلى إنشاء "نموذج حديث للردع" لمواجهة جيل جديد من المخاطر الأمنية على حد قوله. ومن الصحيح أن وجه النزاعات الدولية قد تبدل كثيراً خلال الأعوام الخمسين الماضية، غير أنه ينبغي للرئيس الأميركي المقبل ألا ينسى مطلقاً، أن استراتيجية الردع قد أثبتت جدواها وقدرتها على حفظ السلام الدولي. وربما ازدادت حاجة رئيسنا القادم لتعلم هذا الدرس المهم من دروس التاريخ والنزاعات، فيما لو كانت النتيجة التي خلفتها لنا تركة بوش الأمنية ونهج حروبه الاستباقية، تسامحاً دولياً مع هذا النوع من الحروب الخطيرة المهددة للسلم الدولي. لورانس جي. كورب مساعد سابق لوزير الدفاع في إدارة ريجان لورا كونلي مساعدة خاصة بمركز "أميركان بروجرس" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"