يغوصُ العالَمُ الأولُ في أزمةٍ كبيرةٍ لها بُعدان هائلان: الضرباتُ القاسيةُ التي نزلت وتنزل بالاقتصادات الكبرى بدءاً بالولايات المتحدة، وما ستؤثّر به تلك الضربات على أحجام الاقتصادات، وعلى النموّ، ومستويات الدخول، وإمكانيات التصرف، وأعباء وتكاليف معالجة الانسدادات القديمة والمستجدّة. والبُعْدُ الآخَرُ افتقارُ العالَم إلى قيادةٍ مشتركةٍ أو جماعيةٍ لها مشروعيةٌ من نوعٍ ما تستندُ إلى قوة الاقتصاد أو التجربة السياسية الناجحة أو التضامُن والتكاتُف بين أعضائها إنْ كانت جماعيةً، أو من حولها إنْ كانت فردية. وكان من الطبيعي أن يتطلع العالَمُ في هذه الأزمة الطاحنة إلى الولايات المتحدة، لأنها ما تزالُ هي الأقوى اقتصاداً، وهي الأقدَرُ في التجربة السياسية والاستراتيجية، وفي التحالُف الكبير الذي ما تزالُ تتزعَّمُه. لكنّ ذلك لم يحصُلْ لعدة أسباب. الأول أنّ الأزمةَ الماليةَ انفجرتْ عندها، وأنّ ما عرفه العالَمُ الأولُ من مشكلاتٍ كبيرةٍ إنما نجم عن تداعيات وشظايا ذاك الزلزال. وقد تطلعتْ الولايات المتحدةُ إلى الحلفاء والأصدقاء والشركاء في التجارة والسياسة طالبةً منهم المساعدة؛ لكنهم ما استجابوا، ليس بسبب الأنانية، بل لأنّ كلاً منهم صارت لديه مشكلاتٌ بسبب ارتباطه بالاقتصاد الأميركي والسوق الأميركية، كلفتْهُ وتكلّفُهُ أعباءً يعجزُ معها عن إظهار التضامُن حتى لو كان حليفاً أو شريكاً. والسببُ الآخَرُ لعدم التطلُّع إلى الولايات المتحدة هو السلوكُ الأميركي على مدى قُرابة العقدين، وعلى المستويات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. فقد سلكت الإدارات الثلاث المتعاقبة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، بل قبل ذلك منذ ثمانينيات الريغانية المقْبضة، سلوكَ الذي لا يأْبَهُ لقضايا ورغبات الحلفاء والأصدقاء، وسلوك الشديد العدوانية تُجاه الآخرين من الداخلين في النظام الدولي، سواءٌ أكانوا خصوماً لأميركا أو محايدين إزاءها. وبحسب تعبير بول كروغمان -عالم الاقتصاد الأميركي الحاصل على جائزة نوبل لهذا العام– فإنّ الولايات المتحدة، وخلال حوالي الثلاثين عاماً، عوَّضَتْ عن تراجُعها في الأداء الاقتصادي، بإرغام الآخَرين على الخضوع لرغباتها بالقوة العسكرية أو بالإجراءات التعسفية في المؤسسات الدولية التي تتحكمُ بها مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. والسببُ الثالثُ لعدم التطلُّع إلى الولايات المتحدة باعتبارها منقذاً، كما جرى خلال الحرب العالمية الثانية (بالإعانة على مكافحة النازية والفاشية) وبعدها (بخطة مارشال للنهوض بأوروبا)؛ هو بروزُ وعيٍ جديدٍ لدى قوى وسطى وكبرى بالقدرة على الشراكة والمشاركة في النظام العالمي الاقتصادي والاستراتيجي، وإنكار الولايات المتحدة ذلك عليها إلاّ بشروطها هي. ومن تلك القوى الصين وروسيا والهند والبرازيل، واقتصادات شرق آسيا... والآن اقتصادات الخليج العربي. وفي 15/11/2008 ستنعقدُ قمةٌ اقتصاديةٌ بالولايات المتحدة هي قمةُ العشرين، بدلاً من السبع أو الثماني دُوَل. وقد تكونُ تلك القمةُ، والتي يحضُرُها من العرب المملكةُ العربيةُ السعودية، فُرصةً للمراجعة وإعادة النظر، واجتراح ترتيبات جديدة وآليات جديدة لتسيير الاقتصاد العالمي بشكلٍ جماعي، ومن جانب الأعضاء العشرين أو ما هو أوسَع. لكنّ ذلك لن يكونَ كافياًَ، ولابد بعد ذلك من قمة استراتيجيةٍ تنظُرُ في تدبير الشأن السياسي والاستراتيجي عن طريق العودة للمؤسسات الدولية بعد إصلاحها وتَوسعتِها. والواقع أنه باستثناء البؤس والفوضى والأمراض في أفريقيا، ما عانت ناحيةٌ في العالَم ما عاناه العالمُ العربيُّ، وبعض العالَم الإسلامي، خلال العَقدين الماضيين. ففي العالمين العربي والإسلامي تفاقمت المشكلاتُ السياسيةُ والاستراتيجية الموروثة من الحرب الباردة، وأقبلت الولاياتُ المتحدةُ على شنّ حروبٍ للأَوحدية على العرب والمسلمين بالذات دمَّرتْ عدة بلدان، ونشرت مشكلاتٍ وكوارث، وجِراحاً، لا يمكنُ تضميدُها لعقودٍ مُقبلة. ولولا السنواتُ الأربعُ الأخيرة التي ارتفعت فيها أسعارُ النفط، لبقيت نِسَبُ النمو في العالم العربي بين الأَدْنى في العالم ولا نستثني أفريقيا! وهذا فضلاً عن استمرار الفشل في التجربة السياسية العربية والإسلامية، وهو فشلٌ موروثٌ من الحرب الباردة، ودفعتْ للمزيد منه الولاياتُ المتحدةُ بدعوتها الوهمية للديمقراطية في الأقطار والنواحي التي حالتْ هي بنفسِها دون التغيير السياسي فيها! إنّ الذي أبتغي الوصولَ إليه ليس الشماتة بالعالَم الأول وما جرى عليه، ولا البحث كما يفعلُ البعضُ عن بدائل لهدْم النظام العالَمي، بل الإفادة من الآفاق وليس فقط الانسدادات التي برزت خلال السنوات الأخيرة وبلغتْ الذروةَ في الأزمتين الأخيرتين أو الأزمة المزدوجة: في النظام الاقتصادي، وفي القيادة الاستراتيجية. إنّ لدينا القضية الفلسطينية التي حالت الولايات المتحدة في العقد الأخير دون التوصُّل إلى حلٍ لها بسبب دعمها المطلق لإسرائيل. وقد اعتمدت الدولتان ومنذ حرب عام 1973 تكتيك الحلول المنفردة، وقد أفضى هذا التكتيك إلى انسدادٍ كاملٍ، وحروبٍ هنا وهناك. وها هي الدولةُ العبريةُ تتحدث الآن عن قَبولها بالتفاوض على أساس المبادرة العربية للسلام. وما جاء ذلك نتيجةَ المقاومة العربية فقط، ولا نتيجة "التعقُّل" الإسرائيلي وحسْب، بل لأنَّ الإسرائيليين والأميركيين عانوا ويعانون من عجزٍ استراتيجي بعد عقودٍ من القتال والانتصارات. ومن جهةٍ أُخرى فإنّ أوزان العرب وأحجامهم إلى ازدياد وليس إلى تناقُص. ويحتاجُ الأمر الآن إلى بروز قيادة جماعية من جانب الفلسطينيين، وإلى تشكُّل قيادة عربية قادرة على تلقُّف هذه الفُرصة لبلوغ أُفق إقامة الدولة الفلسطينية، وتحرير الجولان. وها هم العراقيون يفاوضون الأميركيين على تسريع الانسحاب من العراق، وهم محتاجون أيضاً إلى وقوفٍ معهم من جانب السعودية ومصر، من أجل العودة للاستقرار والتوازُن. وها هـم الإثيوبيون -الذين دفع بهم الأميركيون إلى داخل الصومال- يتهيأون للانسحاب من ذلك البلد المعذَّب والمنقسِم. وهم محتاجون أيضاً إلى خطوةٍ أُخرى للعودة للنظام بعد طول فسادٍ وإفساد. وإذا بقيت الحكومةُ السودانيةُ على جديتها التي برزت أخيراً، فقد يمكنُ خلال عامٍ أو عامين استنقاذ السودان أيضاً. على أنّ ذلك كلَّه لا يمكنُ بلوغُهُ إلاّ ضمن الشراكة في النظام العالمي الاقتصادي والاستراتيجي، والتي يبدو أننا مقبلون عليها. فالسعوديةُ مدعوَّةٌ إلى اجتماع العشرين، وهناك أملٌ في تصحيح إدارة النظام العالمي بحيث تكونُ لنا كلمةٌ وازنةٌ في مجلس الأمن، مثلما سيكونُ عليه الأَمْرُ في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والدول العشرين، ومنظمة التجارة العالمية. فعلى الرغم من وجوه الضعف الكثيرة، تصححتْ علاقاتُنا في السنوات الخمس الأخيرة بكلٍ من روسيا والصين والهند واليابان. وهناك أسبابٌ للأمل في أن نستطيع تكوين تكتلٍ اقتصاديٍ قوي، يحتاجُ وحسْب إلى الإرادة السياسية الجَامعة. إنّ الدرس الذي تتعلمه الولاياتُ المتحدةُ في السنوات الأخيرة، أنّ الجيش الهائل لا يمكنُ به قيادةُ العالَم، بل لابد من تنازُلٍ حقيقيٍ لمقولة الاعتماد المُتبادَل وعلى المستويات كافة. بيد أنّ المشكلات التي نُعاني مها لا تعودُ إلى طغيان الولايات المتحدة وحسبْ. لكن لدينا الإمكانيات التي ينبغي تحويلُها بالإرادة السياسية الجامعة إلى قُدُرات ندخُلُ بها في شراكةٍ ضمن النظام العالمي الجديد، وينعكسُ ذلك خيراً واستقراراً، وتمكُّناً من مقاربة المشكلات التي خلّفتْها الحربُ الباردة من جهة، والأنظمة الثورية الفظيعة، والأَوحدية الأميركية في العقدين الأخيرين، من جهةٍ ثانية. فلا حلَّ للمشكلات، ولا أمل بالمستقبل إلاّ بأن نكونَ فاعلين في عالَم اليوم ونظامه الجديد الطالع من قلْب الأَزَمات.