هكذا وضعت الحرب الأهلية الأميركية أوزارها أخيراً بعد العاشرة مساء بقليل حسب التوقيت الشرقي، في الرابع من نوفمبر من عام 2008، إثر حصول باراك حسين أوباما على ما يكفي من الأصوات لانتخابه أول رئيس أسود لها. وعبر صناديق الاقتراع وضع الناخبون الأميركيون في ولاية بنسلفانيا حداً لتلك الحرب في ذات الولاية التي نشبت فيها الحرب عام 1836، أي بعد مضي 145 عاماً عليها. فما أن أحرز أوباما تقدماً حاسماً في المعركة الانتخابية في ولاية بنسلفانيا، حتى أضحى فوزه مضموناً ليصبح الرئيس الأميركي الرابع والأربعين. وكان الرئيس الأسبق أبراهام لنكولن قد حث من يتولى القيادة من بعده، على إكمال المهمة التي لم يستطع هو إكمالها، وهي الوصية التي تضمنها خطابه الشهير الذي ألقاه في جيتسبرج -حيث نشبت الحرب الأهلية في بنسلفانيا-. لكن وعلى رغم تلك الوصية، فإن "المهمة" التي عناها لنكولن لم تكتمل بعد، رغم مضي قرن ونصف القرن عليها. وخلال هذه المدة الطويلة، شرَّع الكثير من قوانين الحقوق المدنية، وتواصل النشاط الاجتماعي والتدخل القضائي حيثما اقتضت الضرورة، منه على سبيل المثال، قضية "براون ضد المجلس التعليمي"، كما شهدت السنوات نفسها حملة داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كنج، التي دشنها بخطابه التاريخي "لدي حلم"، ثم تلاها إصدار قانون الحقوق المدنية لعام 1964. إلا أن الحرب الأهلية لم تنته عملياً، إلى أن انتخبت الأغلبية الأميركية البيضاء رئيساً من أصل أفريقي للبلاد ليلة الثلاثاء الموافقة الرابع من نوفمبر 2008. ذلك هو ما حدث في تلك الليلة، وهو عينه السبب الذي جعلنا نستيقظ على دولة ذات ملامح جديدة. صحيح أن المعركة الطويلة من أجل العدالة الاجتماعية لم تكتمل بعد، غير أنه أصبح في وسعنا أن نبدأ بداية جديدة، استناداً إلى قاعدة أرسيت للتو. وليعلم كل طفل وكل مواطن وكل مهاجر أن كل شيء يمكن تحقيقه هنا في هذه البلاد، اعتباراً من اليوم فصاعداً. فكيف لأوباما أن أرسى هذه القاعدة وجعل الحلم الأميركي حقيقة؟ هناك عدة عوامل رئيسية ساعدت على تحقيق هذا الفوز، أولها أن بلادنا قد عصفت بها الأزمة الاقتصادية بما يكفي لإقناع الأغلبية البيضاء بالتصويت لرجل أسود، مع العلم أن هذا النوع من الأزمات لا يحدث إلا مرة واحدة في القرن. ومن العوامل المهمة أيضاً، حسن تنظيم الحملة الانتخابية الرئاسية لأوباما، مضافة إليه مزايا الهدوء واللباقة وطلاقة اللسان التي يتمتع بها أوباما، ودعوته اللاعدوانية إلى التغيير. ولكن هناك أيضاً ما أسميه "عامل بافيت" الذي نجح في تجاوز المخاوف السابقة من التأثير السلبي لـ"عامل برادلي" على حملة أوباما الانتخابية: أي أن يقول الناخبون البيض لمؤسسات استطلاعات الرأي إنهم سوف يدلون بأصواتهم لصالح باراك أوباما، إلا أنهم يقترعون سراً لصالح المرشح الأبيض، جون ماكين. أما في "عامل بافيت" فينقلب السلوك الانتخابي لدى الناخبين البيض تماماً إلى عكس عامل برادلي. ووفقاً لهذا العامل، صرح الكثير من الناخبين "الجمهوريين" بأنهم سوف يقترعون لصالح ماكين، إلا أنهم أيدوا سراً المرشح "الديمقراطي" الأسود باراك أوباما، على رغم علمهم المسبق بأن هذه الخطوة سوف تكلفهم المزيد من الضرائب المقررة التي وعد بها أوباما. فلماذا حدث هذا يا ترى؟ لقد فعل البعض ذلك تضامناً مع أولادهم وبناتهم الذين أخذتهم فورة الحماس والتعلق بأمل وصول أوباما إلى الرئاسة. ولم تهن على أولئك الآباء هزيمة ذاك التطلع والأمل. إلا أن منهم من أخذ بحدسه بنصيحة رجل الأعمال الخير "وارين بافيت" القائلة: إن كنت غنياً ورجل أعمال ناجحاً، فإن عليك أن تدرك أن ذلك لم يتحقق لك إلا لكونك محظوظاً ومولوداً في أميركا. وعليه فنحن في أشد الحاجة إلى رئيس قادر على توحيدنا من أجل العمل معاً وبيد واحدة على بناء أمتنا هنا في الداخل. على أن من هؤلاء الناخبين البيض من أدرك على نحو ما، ضرورة معاقبة الأداء السيئ لإدارة بوش وحزبها "الجمهوري". وإلا فإن انتخاب جون ماكين كان سيعني بشكل ما، مكافأة لسوء الأداء ونقص الأهلية القيادية في ظل إدارة بوش. وفيما لو انتخب ماكين، فسوف يكون ذلك هزءاً وسخرية من مبدأ محاسبة الحكومة على أفعالها، إلى جانب إشاعة موجة عميقة لا قرار لها من اليأس والإحباط بين المواطنين الأميركيين. واعتباراً من ليلة الثلاثاء فصاعداً سوف يظل أوباما دائماً أول رئيس أميركي أسود اللون، ولكن هل ينضم إلى قائمة الرؤساء الأميركيين العظماء القلائل؟ ما يمكن قوله هنا إن فرصة كهذه قد أتيحت له بالفعل الآن، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن أعظم رؤسائنا تقلدوا مهامهم القيادية في أحلك الظروف ومنعطفات التاريخ التي مرت بها بلادنا. وكما يقول الفيلسوف السياسي مايكل ساندل - من جامعة هارفارد- فإن مجرد الوصول إلى البيت الأبيض عند الأزمات، لا يشكل ضماناً لتحقيق العظمة، إلا أنه يوفر فرصة لتحققها على أية حال. وهذا هو ما حققه الرؤساء السابقون: أبراهام لنكولن وفرانكلين روزفلت وهاري ترومان. وعلى أوباما أن يعيد هيكلة جهاز الدولة، بحيث يكون أداة لخدمة "الصالح العام" أي لتنظيم السوق وحماية المواطنين ضد مخاطر البطالة والمرض، فضلاً عن الاستثمار في استقلال بلادنا في مجال الطاقة. وعلى رغم صعوبة تحقيق هذه الأهداف، إلا أن حدسي يقول لي إن تمكننا من تجاوز ماضينا العنصري، كان هو الواجب الأكثر صعوبة بين هذه المهام جميعاً.. وها هو قد تحقق بالفعل في ليلة الرابع من نوفمبر التاريخية. ــــــــــــــــــــــــــــ توماس فريدمان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"