من المعتاد أن تثبت الأبحاث والدراسات العلمية خطأ بعض الاعتقادات والمفاهيم الشائعة، وإن كان من غير المعتاد أن تتحدى هذه الأبحاث والدراسات بديهيات المنطق وأساسيات التفكير. وقبل استعراض مدى التغير الجوهري الذي فرضته الأبحاث الطبية الحديثة على أساسيات ومبادئ الطب الإنجابي وعلم الاخصاب الاصطناعي، لابد أن نسترجع بعض الحقائق الأساسية عن عملية تجميد الأجنة. حيث يلجأ الأطباء لتجميد الأجنة لعدة أسباب منها عدم رغبة الزوجين في إنجاب أطفال في مرحلة ما من حياتهم، مع خشيتهم فقدان أحدهما لخصوبته، عندما يقرران أن الوقت قد حان للحمل والإنجاب. وإن كان الاستخدام الأكثر شيوعاً يقع ضمن عمليات الإخصاب الخارجي المعروفة بأطفال الأنابيب (IVF). في تلك العمليات، يتم تحفيز مبيض المرأة لإنتاج عدة بويضات، يتم تلقيحها جميعاً في أطباق المعامل باستخدام حيوانات منوية من الزوج. وبما أن التوصيات الحديثة، تعارض زراعة أكثر من جنين في المرة الواحدة، يبقى فائض من الأجنة المخصبة يتم تجميده في درجات حرارة شديدة الانخفاض (196 تحت الصفر)، ويتم حفظه في نيتروجين سائل، كاحتياطي يستخدم إذا ما فشل حمل الجنين الذي تمت زراعته. وقد اتخذت هذه العملية الروتينية منحى جديداً مؤخراً، بعد نشر نتائج عدة دراسات، ضمن فعاليات مؤتمر الجمعية الأميركية للطب الإنجابي (American Society for Reproductive Medicine). الدراسة الأولى الصادرة من فنلندا، أظهرت أن الأطفال المولودين من أجنة "طازجة"، تزداد احتمالات ولادتهم مبكراً بنسبة 35%، وتزداد احتمالات ولادتهم ناقصي الوزن بنسبة 64%، مقارنة بالأطفال الذين تم تجميدهم كأجنة (Frozen Embryo)، قبل زراعتهم في أرحام أمهاتهم. أما الدراسة الثانية، الصادرة من جامعة بنسلفانيا في ولاية فيلادلفيا الأميركية، فقد أظهرت كما في الدراسة الأولى، أن الاطفال المولودين من أجنة طازجة تزداد احتمالات ولادتهم ناقصي الوزن بنسبة 51%، مقارنة بالأطفال الذين تم تجميدهم كأجنة قبل زراعتهم في أرحام أمهاتهم. وعلى نفس المنوال والوتيرة وفي الوقت نفسه، أظهرت دراسة صدرت عن أحد المستشفيات الأسترالية (Royal Women’s Hospital) بمدينة ملبورن، أن 11% من الأطفال الناتجين من أجنة طازجة يعانون من وزن منخفض عند الولادة، مقارنة بـ6.5% فقط بين الأطفال الناتجين من أجنة مجمدة. وفي نفس الوقت يتعرض 12% من الأطفال الناتجين من أجنة طازجة للولادة المبكرة أو المبتسرة، ويلقى 1.9% منهم حتفهم، بينما تنخفض نسبة الولادة المبكرة إلى 9.4% ونسبة الوفيات إلى 1.2% فقط بين الأطفال الناتجين من أجنة مجمدة. والمثير أن الأبحاث والدراسات السابقة، بما تحتوي من أرقام ونسب وإحصائيات، تؤكد جميعها أطروحة غريبة، مفادها أن تجميد الجنين قبل الزراعة في رحم الأم، يقلل من فرص ولادته مبكراً، ويزيد من وزنه عند الولادة، ويخفض من احتمالات وفاته أثناء وبعد الولادة مباشرة. وهو ما يصطدم بوجه التفكير المنطقي والبديهي، بأن عملية التلقيح، وتكوّن الجنين، ثم التصاقه برحم أمه، في مسارها الطبيعي المجرب عدة مليارات من المرات، لابد أن تكون أفضل من العبث بالجنين في أطباق المعامل، وتجميده إلى درجة 196 مئوية تحت الصفر، ثم حفظه في نيتروجين سائل لأسابيع وشهور، ولأعوام أحياناً. وهذا ما أسقط في أيدي الأطباء، وتركهم في حيرة من أمرهم، عاجزين عن تفسير هذه النتيجة غير المتوقعة، وغير الطبيعية، لتجميد الأجنة. فبخلاف الدراسات الثلاث السابقة، وفي منتصف الصيف الماضي، نجحت مجموعة من علماء المستشفى الجامعي بمدينة كوبنهاجن بالدانمرك، في مفاجأة الوسط الطبي برمته، عندما عرضت نتائج دراسة خلال الاجتماع السنوي للجمعية الأوروبية للإنجاب وعلم الأجنة في مدينة برشلونة بإسبانيا، أظهرت من خلالها أن تجميد الجنين قبل زراعته يخفض من احتمالات تعرضه لعدد من المشاكل والمضاعفات مقارنة بالحمل الناتج عن أجنة طازجة. وكان العلماء الدانمركيون قد شرعوا في هذه الدراسة، لاستكشاف ما إذا ما كانت عملية تجميد الأجنة، ثم تذويبها، ثم زراعتها في رحم الأمهات، تزيد من احتمالات تعرض الأطفال الناتجين للعيوب الخلقية. وكانت المفاجأة، وبخلاف إثباتهم لعدم وجود فرق في نسبة العيوب الخلقية بين المجموعتين، اكتشافهم أن عملية التجميد والحفظ ثم التذويب والزراعة، أدت إلى استمرار الحمل لفترة أطول، وإلى ولادة الطفل بوزن أكبر بمقدار مائتي جرام. ولكن ما تفسير هذه النتيجة الغريبة وغير المتوقعة؟ ببساطة، لا أحد يعلم بعد. وإن كان البعض يرى أن الأجنة السليمة والقوية فقط، هي التي يمكنها البقاء والاستمرار بعد عملية التجميد والتذويب، مما يمنع زراعة أجنة ضعيفة، غير قادرة على استكمال فترة الحمل بأكملها، أو ينتج عنها في النهاية أطفال ناقصو الوزن. أي أن عملية التجميد، هي بمثابة انتقاء أو "فلترة"، لا تبقي إلا على الأقوى والأصلح. وهو ربما قد يؤدي بالأمهات في المستقبل إلى المطالبة بتجميد أجنتهن لفترة ما، حتى يتأكدن من أن الأجنة القوية فقط هي التي ستزرع في أرحامهن. وإن كان البعض يحذر من هذا الاتجاه، بسبب حقيقة أن فرص تمكن الجنين الطازج من الالتصاق برحم أمه والاستمرار في الحمل حتى نهايته، هي أعلى من فرص الجنين المجمد سابقاً، وهو ما يعني أن على الأمهات التفكير ملياً ووزن الاختيارات، بين زيادة فرص نجاح الحمل باستخدام أجنة طازجة، وبين الاعتماد على الأجنة المجمدة، بما تحمله من فوائد على صعيد الولادة مكتملة الوقت لأطفال مكتملي الوزن.