إن لم تكن متتبعاً جيداً لما يحدث في عالم الاقتصاد هذه الأيام، فقد واصلت الأنباء الاقتصادية تدفقها من سيئ نحو الأسوأ. لكن على رغم سوء الوضع الاقتصادي فإنني لا أتوقع حدوث موجة كساد عظيم جديدة على أي حال. والواقع أننا لن نشهد وصول معدلات البطالة إلى ما كانت عليه في فترة ما بعد الكساد العظيم وفي فترات كساد أخرى، إذ بلغت نحو 10.7 في المئة عام 1982، إن صحت معلوماتي. غير أن ذلك لا ينفي حقيقة أننا مضينا شوطاً بعيداً نحو ما أسميه بمرحلة اقتصادات الكساد. والمعني بهذا الاصطلاح هو وصف أوضاع اقتصادية شبيهة بتلك التي كانت عليها الأوضاع في عقد ثلاثينات القرن الماضي، حيث فقدت آليات السياسات الاقتصادية العادية المعمول بها -خاصة استطاعة البنك الاحتياطي الفيدرالي إنقاذ الاقتصاد القومي من محنته عن طريق خفض معدلات الفائدة التي يفرضها- قدرتها على التأثير والفعل. وما إن تسود اقتصادات الكساد هذه، حتى تنتفي فعالية السياسات الاقتصادية الدارجة، وتستحيل النعمة إلى نقمة، ويتبدل الحذر الاقتصادي إلى مغامرة وتبدو الحصافة حماقة وطيشا. ولكي تتضح لكم معالم الصورة التي أتحدث عنها، فما عليكم إلا أن تتابعوا معي تداعيات آخر وأسوأ الأخبار الاقتصادية المتداولة: فقد ورد في التقارير الإخبارية الصادرة مؤخراً، أن معدل التأمين على البطالة قد تجاوز نصف مليون درجة. ولكن الغريب أن هذه الصورة القاتمة التي نقلتها التقارير جاءت بمعزل عن عوامل أخرى ربما لم تلحظ التقارير مدى كارثية عدم ذكرها ووضعها في الاعتبار. فعلى رغم ما يثيره هذا الرقم من قلق جدي، إلا أنه لا يزيد كثيراً عما كانت عليه الأرقام نفسها في موجتيْ الركود الاقتصادي اللتين شهدتهما بلادنا في عامي 1982، و1990-1991. وقد انتهت كلتاهما إلى كونها طفيفة نوعاً ما قياساً إلى معدلات الكساد التاريخية. أقول هذا على رغم أن تعافي العمالة قد استغرق وقتاً مقدراً قبل أن ينهض سوق العمل على قدميه مجدداً. لكن في كلتا الحالتين السابقتين، كانت استجابة السياسات المثالية لحالات الضعف الاقتصادي هذه -قدرة البنك الاحتياطي الفيدرالي على إنقاذ الوضع عن طريق خفض أسعار الفائدة- خياراً موجوداً وقادراً على التأثير والفعل الإيجابيين. ووجه الاختلاف هذه المرة أن معدل خفض سعر الفائدة الفيدرالي انخفض سلفاً إلى ما دون الـ0.30 في المئة خلال الأيام الأخيرة الماضية، مما يعني أنه لم يبق هناك ما يمكن خفضه أصلاً. وعندما تغيب احتمالات خفض سعر الفائدة، فليس من سبيل للحيلولة دون تدهور العربة الاقتصادية المستمر نحو الهاوية. و بالمنطق نفسه، سيؤدي الارتفاع المطرد لمعدلات البطالة إلى انخفاض مقابل في معدل إنفاق المستهلكين، وهو ما حذر بعض المحللين خلال الأسبوع الماضي من أن يؤدي إلى اضمحلال اقتصادي مزلزل. وسيؤدي ضعف إنفاق المستهلكين بالضرورة إلى تراجع في الخطط والمشروعات الاستثمارية. وما إن يزداد ضعف الأداء الاقتصادي حتى ترتفع معدلات البطالة أكثر من ذي قبل، فتنخفض معدلات إنفاق المستهلكين، مما يعني بدء دورة جديدة من الانكماش الاقتصادي... وهكذا. والسبيل لإخراجنا من دوامة الضعف الاقتصادي هذه هو أن تقوم الحكومة الفيدرالية بواجبها، وذلك بتوفير حوافز اقتصادية قوامها رفع القدرة الاستهلاكية الشرائية للمواطنين، وتخفيف الضائقة الاقتصادية عن المحتاجين بواسطة تقديم المساعدات اللازمة لهم. ولن تتحقق خطة الحفز الاقتصادي هذه بالسرعة ولا الفعالية المرجوتين لها إلا إذا تمكن المسؤولون السياسيون والاقتصاديون من تجاوز الكثير من عصبياتهم التقليدية السابقة. وإحدى هذه العصبيات هي الحذر والخوف من تجاوز الخطوط الحمراء. ففي الأوقات العادية كان طبيعياً أن يقلق المسؤولون على عجز الميزانية الفيدرالية، بينما تعد المسؤولية المالية نعمة لا مناص من العودة إليها ما إن تزول غشاوة الأزمة الحالية. ولابد من توخي الحذر والبطء في تعديل السياسات. ففي الأوقات والظروف العادية، يكون من المفيد للغاية العمل بالحكمة التالية: إياك أن تحدث أية تغييرات جوهرية على السياسات ما لم تتأكد من مدى شدة الحاجة إليها. غير أن هذا الحذر في الظروف الراهنة يعد مخاطرة كبيرة، طالما أن التحول نحو الأسوأ ماض في طريقه سلفاً. وهكذا تنقلب نعمة الحذر هذه إلى نقمة في ظل اقتصادات الكساد التي تمر بها أميركا حالياً. ولنذكر بهذه المناسبة أن محاولة البنك الاحتياطي الفيدرالي التي هدفت للمحافظة على توازن الميزانية العامة عام 1937 كادت تعصف بمشروع "الصفقة الجديدة" التي نجحت في إنقاذ اقتصادنا القومي حينئذ. وعلى عكس تلك العصبية الموروثة، فما لم نتحرك الآن ونسرع بإحداث التغييرات اللازمة في سياساتنا الاقتصادية، فإننا على الأرجح سنواجه وضعاً اقتصادياً أسوأ وأشد كارثية. ولا أقلل بهذا بالطبع من أهمية المسؤولية في بلورة السياسات الجديدة وإجراء التعديلات على السياسات القائمة، إلا أنه ينبغي لنا ألا نستخف بأهمية عامل الزمن وتأثيره على اقتصادنا. وختاماً، فإنه لاشك في جدوى وقيمة التحلي بالحكمة والحصافة في تحديد أهداف السياسات الاقتصادية في ظل الظروف العادية والطبيعية. غير أن الوضع الاقتصادي الراهن يفرض علينا العكس تماماً، إذ يفضل أن نرتكب الأخطاء ضمن مساعينا لفعل كل ما يمكن فعله للخروج من الأزمة، بدلاً من ارتكاب الأخطاء بسبب الحذر ونحن نلزم حالة الشلل واللافعل. وعلى أي حال فإن الخطر الذي نواجهه الآن هو، وفي حال تجاوز خطة الحفز الاقتصادي المرجوة للحد المطلوب منها، فإن من شأن ذلك أن يؤدي بنا إلى موجة تضخم جديدة. ولكن الجيد في هذه الحالة أنه سيكون دائماً في وسع البنك الاحتياطي الفيدرالي درء هذا الخطر، عن طريق الإسراع برفع سعر الفائدة. وهكذا تستحيل الحصافة الاقتصادية إلى حماقة وطيش في ظل ظروف اقتصادات الكساد التي نواجهها حالياً. والسؤال الآن: ماذا يعني كل هذا بالنسبة لسياستنا الاقتصادية في المستقبل القريب المنظور؟ من المؤكد أن تواجه إدارة أوباما لدى تسلمها المهام الرئاسية في بداية العام المقبل، وضعاً اقتصادياً أسوأ مما هو عليه الآن. وتشير كل المؤشرات إلى أنها ستقدم على توفير حافز اقتصادي ضخم، لا يقل -وفق تقديراتي- عن مبلغ 600 مليار دولار. فهل يتحلى طاقم أوباما بجرأة كهذه؟ وهل يجرؤ على تجاوز الكثير من عصبيات الحذر والحصافة الاقتصادية التي سادت سياساتنا في الظروف العادية؟ بول كروجمان كاتب ومحلل سياسي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"